شفقنا العراق-إصلاح الشركات العامة بات معركة اقتصادية مفصلية، فبعد عقود كانت فيها مؤسسات الدولة حملاً ثقيلاً على المالية العامة، تتجه الحكومة إلى إعادة هيكلتها وربط رواتبها بالإنتاجية ودمج القطاع الخاص بدورها التشغيلي، بما يحولها إلى محركات نمو حقيقية قادرة على خلق قيمة لا استنزاف موارد.
جمع خبراء اقتصاد ومستشارون حكوميون على أن إصلاح الشركات العامة في البلاد أصبح ضرورة ملحة لتحقيق التنمية وتنويع الاقتصاد الوطني،
مؤكدين أن هذه الشركات التي مثلت لعقود عبئاً مالياً على الدولة، يمكن أن تتحول إلى محركات حقيقية للنمو إذا ما أخضعت لمعايير الإدارة الحديثة والحوكمة الفاعلة، وأعيد ربطها بديناميات السوق عبر شراكات متوازنة مع القطاع الخاص.
وفي ندوة اقتصادية نظمتها مؤسسة أصول للتطوير الاقتصادي والتنمية المستدامة، تحت عنوان “الشركات العامة من عبء مالي إلى محرك تنموي”، تمت مناقشة واقع هذه الشركات وسبل النهوض بها، وركزت على مبدأ أن يكون الأجر منتجاً والعائد مرتبطاً بالإنتاجية، في خطوة تستهدف الحد من مظاهر البطالة المقنّعة وتعزيز كفاءة الأداء داخل مؤسسات الدولة.
وقال مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الدكتور عبد الحسين العنبكي، إن المرحلة الراهنة تتطلب رؤية جديدة تقوم على إعادة هيكلة الشركات العامة وتحويلها من عبء مالي مزمن إلى رافد تنموي مؤثر، من خلال آلية تمنح القطاع الخاص دوراً محورياً في إحياء هذه الشركات وإعادة تشغيلها من دون المساس بملكية الدولة للأصول.
خارطة طريق شاملة
وأوضح أن الحكومة أعدّت بالتعاون مع الأمم المتحدة خارطة طريق شاملة لإصلاح شركات القطاع العام، مستندة إلى تجارب دولية أثبتت نجاحها في تحويل الشركات الخاسرة إلى مؤسسات رابحة.
مشيراً إلى أن قلة قليلة من تلك الشركات حول العالم انتهت إلى التصفية بعد فشلها في الإصلاح. وأكد العنبكي دعمه للخصخصة بجميع أشكالها وآلياتها، على أن تكون أداة لتنويع الاقتصاد الوطني ومصادر تمويل الموازنة العامة الاتحادية لا وسيلة للتخلص من الأعباء المالية.
من جانبه، تحدث المستشار المالي لرئيس الوزراء الدكتور مظهر محمد صالح عن أهمية الاستفادة من التجارب الدولية في مجال الخصخصة وإعادة الهيكلة، مشيراً إلى أن العراق اطلع عن قرب على تجربة ألمانيا في تنفيذ أكبر مشروع خصخصة شهدته دول العالم بعد توحيدها، وكيف جرى توظيف تلك التجربة لخدمة الاقتصاد الوطني مع الحفاظ على استقرار سوق العمل.
وأوضح أن الوجود الميداني في مواقع العمل خلال هذه التجربة كشف عن أهمية معالجة ملف العاملين في الشركات العامة بآليات مرنة تضمن استيعابهم في عمليات الإصلاح من دون اللجوء إلى التسريح أو الإقصاء.
صندوق العراق للتنمية
وأضاف صالح، أن من الممكن أن يقوم صندوق العراق للتنمية بشراء الأصول الحكومية المتعثرة ومبادلتها بدين البنك المركزي العراقي وتحويلها إلى أسهم قابلة للتداول في السوق المالية، بما يعزز فرص الاستثمار الداخلي ويسهم في تحسين إدارة الدين العام وتنشيط الدورة الاقتصادية.
أما رئيس قسم الاقتصاد في كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة القادسية الدكتور عبد الرزاق الناشئ، فقد أكد أن التعامل مع الأصول الحكومية يتطلب رؤية دقيقة ومتوازنة بسبب ما يرافقه من مخاطر مالية وإدارية، في ظل تدني الإيرادات التي تحققها هذه الأصول مقارنة بحجم ممتلكات الدولة.
وأشار إلى أن العراق بحاجة إلى إعادة تفعيل الشركات العامة وتحويلها من مؤسسات خاسرة إلى شركات رابحة قادرة على تحقيق إيرادات مالية حقيقية تسهم في تقليل الاعتماد على الريع النفطي الذي يشكل المورد الأساسي للموازنة.
وشدد الناشئ على أن الانطلاق من مبدأ “الأجر المنتج” يمثل خطوة أساسية في الإصلاح الإداري والاقتصادي، لأنه يعيد بناء ثقافة العمل على أساس الكفاءة والعائد ويحد من مظاهر البطالة المقنّعة المنتشرة في مؤسسات الدولة.
وفي السياق ذاته، أوضح رئيس مؤسسة أصول للتطوير الاقتصادي والتنمية المستدامة خالد الجابري، أن الندوة تناولت السبل العملية لتحويل الأصول الحكومية من عبء مالي يرهق الموازنة العامة إلى محرك فاعل للتنمية، وذلك من طريق، إعادة هيكلة الشركات العامة وتفعيل الشراكات التشغيلية مع القطاع الخاص، مع الحفاظ على ملكية الدولة للأصول.
المحاور الجوهرية
وبيّن أن الجلسة ناقشت مجموعة من المحاور الجوهرية، منها تشخيص واقع الشركات العامة والتحديات التشغيلية التي تواجهها، فضلاً عن أهمية اعتماد نموذج تشغيل قائم على الإدارة الاحترافية وتعظيم القيمة الاقتصادية للأصول، ووضع إطار مؤسسي لإدارة الأصول الحكومية بعيداً عن الحلول المحاسبية الآنية.
وأضاف الجابري أن النقاشات خلصت إلى ضرورة إعادة تعريف الإصلاح الاقتصادي في العراق عبر إعادة توزيع الأدوار بين القطاعين العام والخاص، بحيث يتولى الأول مهمة التنظيم والرقابة، بينما يتولى الثاني مهام الإنتاج والتنفيذ في إطار من التكامل والشراكة لا التنافس.
وخلصت الندوة إلى أن النهوض بالشركات العامة يتطلب حوكمة مؤسسية واضحة، ونماذج تشغيل وشراكات متوازنة مع القطاع الخاص، بما يتيح تحويل الأصول العامة من حالة الجمود الإداري إلى حالة الإنتاج والقيمة المضافة.
وشدد المشاركون أن تطبيق هذه الرؤية سيجعل الأصول الحكومية رافعة حقيقية للتنمية، ويسهم في تحسين إدارة الدين الداخلي ورفع كفاءة الاقتصاد الوطني،
مؤكدين أن امتلاك إرادة سياسية واقتصادية واضحة هو الضمان الأساسي لنجاح هذا التحول، الذي من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة أمام الاستثمار ويحوّل القطاع العام من عبء مالي إلى عنصر فاعل في دفع عجلة التنمية الشاملة في البلاد.

