شفقنا العراق-المغترب العراقي يعيش تناقضًا مؤلمًا؛ فقد غادر الحدود لكنه لم يغادر الانتماء، يتابع أخبار الانتخابات وكأنه واقف على أبواب صندوق الاقتراع، يشعر بأن صوته مُصادر رغم أن قلبه ما زال في بغداد، يراقب المرشحين ويحلّل المشهد السياسي بحثًا عن وطنٍ لا يزال يحلم باستعادته.
يتفقد سلام الكعبي هاتفه الذكي بحثًا عن أخبار العراق كلما استيقظ من النوم، فقد غادره مبكراً لكنّه ما زال عالقاً في روحه. في بلجيكا، الشتاء قاسٍ على العراقيين، هو موسم الحنين، هكذا قال الكعبي وهو يتخطى المنشورات باحثا عن الاخبار السياسية. فالوطن – حسب قوله – ما زال يسكن أصابعه التي تلمس بحنين شاشة الهاتف كلما رأى مفردة {العراق}.
يتحدث الكعبي (43 عاما) بصوتٍ مخنوقٍ وقلقٍ عن انتخاباتٍ جديدةٍ لا يحق له المشاركة فيها، غيوم الغربة هي أيضًا ما يثقل كاهله بقيودها، يريد بكل هذه الشجون أن يختار طريقه في بلده الأم، واصفًا الانتخابات بأنها “خيطه الأخير مع العراق”، وها هو ينسلّ بوعدِ انتماءٍ مؤجل.
وبالرغم من استبعاد العراقيين المقيمين في الخارج من التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، إلا أن الاهتمام بالمشهد السياسي داخل الوطن لا يزال حاضرًا بقوة بين أوساط الجاليات العراقية، فبين متابع لحملات المرشحين ومحلل للبرامج الانتخابية ومشارك في النقاشات السياسية عبر مواقع التواصل، يظهر أن العراقيين في المهجر لم ينفصلوا عن وطنهم سياسيًا ولا وجدانيًا.
لا انسلاخ عن الوطن
حسين الملا خلف يبين أنه “برغم غياب حق التصويت الرسمي لعراقيي الخارج، إلا أن اهتمامهم بالانتخابات المقبلة لا يزال واضحًا، تعبيرًا عن ارتباطهم بوطنهم وحرصهم على مستقبل العملية السياسية فيه”،
مضيفا أن “كل ما يحدث في العراق يهمنا، فنحن نتابع المناظرات والبرامج الانتخابية من النمسا ونتناقش يوميًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك فانا أشعر بأن صوتي مسلوب، لكن أملي لا يزال قائمًا بأنه سيأتي يوم نكون فيه جزءًا من التغيير”.
رنا العامري المقيمة في دولة السويد هي الاخرى تؤكد أن غياب المشاركة لا يعني الانفصال عن الوطن، مبينة: “نعيش الغربة جسدًا فقط، أما قلوبنا فما زالت هناك، نريد أن نرى انتخابات حقيقية تفرز وجوهًا جديدة تحمل مشروعًا وطنيًا، لا وعودًا مكررة، نريد عراقًا يشعرنا بالفخر حين نقول إننا عراقيون”.
ومن ألمانيا، يقول علي سليم الذي يعمل في مجال البناء: “نحن جيل غادر بسبب الأزمات، لكننا لم نغادر انتماءنا، أعتقد أن حرمان العراقيين في الخارج من التصويت خطأ يجب تصحيحه، أصواتنا تمثل تجربة مختلفة ورؤية يمكن أن تثري المشهد السياسي”.
اهتمامٌ متجذر
يرى المحلل السياسي علي البيدر أن اهتمام العراقيين المقيمين في الخارج بالانتخابات المقبلة “ظاهرة لافتة”، تعكس استمرار حضور العراق في وجدانهم رغم المسافة الطويلة التي تفصلهم عنه.
ويقول البيدر إن “اهتمام العراقيين الذين ابتعدوا عن المشهد السياسي داخل البلاد ما زال قائمًا بدرجات متفاوتة، فبرغم إقصائهم من العملية الانتخابية رسميًا، إلا أن الكثير منهم يتابع الحملات الانتخابية والبرامج السياسية، ويخوض نقاشات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا مؤشر على وجود ارتباط نفسي وسياسي بالمشهد الداخلي”.
ويضيف أن “هذا الارتباط يظهر خصوصًا لدى الجيل الأول من العراقيين الذين عاشوا مرحلة التغيير السياسي بعد عام 2003″، موضحًا أن “هؤلاء يشعرون بأن مستقبلهم ما زال مرتبطًا بالعراق، وأن نتائج الانتخابات تنعكس على أسرهم وأصدقائهم وأوضاع البلاد بشكل عام”.
ويشير البيدر إلى أن “الاهتمام بالانتخابات يمثل وسيلة للمغتربين لاستعادة هويتهم الوطنية وممارسة عراقّيتهم الرمزية”، مؤكدًا أن “الهوية العراقية لا تزال حاضرة في وعيهم الجمعي، حتى وإن غابت بعض تفاصيل العادات والتقاليد عن حياتهم اليومية في الخارج”.
ويخلص بالقول: إن “الجيل الجديد من أبناء الجاليات ربما يتعامل مع الانتخابات بفضول سياسي أكثر من ارتباط وطني مباشر، لكنه يظل امتدادًا لتلك الذاكرة الجماعية التي يحملها الجيل الأول من المهاجرين”، مضيفًا أن “الاهتمام السياسي للمغترب العراقي ليس ظاهرة سطحية، بل هو انعكاس لرغبة عميقة في الفهم والتغيير والمواصلة مع الوطن”.
الهوية والانتماء
تظهر تصريحات المحللين أن اهتمام العراقيين في الخارج ليس مجرد تفاعل مؤقت، بل يمثل محاولة للحفاظ على الهوية الوطنية في مواجهة الاغتراب، فالانتخابات بالنسبة لهم، كما يقول البيدر: “ليست مجرد حدث سياسي، بل مناسبة رمزية لاستعادة الشعور بالمواطنة والانتماء”.
البيدر يردف أن “الكثير من العراقيين المغتربين ما زالوا يعيشون العراق داخلهم في الذاكرة والعاطفة والعادات حتى وإن غابوا عن أرضه، وهذا ما يجعلهم يتابعون تفاصيل المشهد السياسي وكأنهم جزء منه”.
حرمان انتخابي
من الناحية القانونية، يوضح الخبير القانوني علي التميمي أن “استبعاد العراقيين في الخارج من التصويت في الانتخابات المقبلة جاء بموجب قانون الانتخابات رقم (4) لسنة 2023، حيث نصت المادة (16) الفقرة الثانية على أن عراقيي الخارج يصوتون باستخدام البطاقة البايومترية داخل العراق فقط، ما يعني عمليًا حرمانهم من التصويت في الخارج”.
ويؤكد التميمي أن “هذا النص يتعارض مع المادة (20) من الدستور العراقي، التي تضمن حق الانتخاب والترشيح لجميع المواطنين، ومع المادة (5) التي تعدّ الشعب مصدر السلطات”، مشيرًا إلى أن “المحكمة الاتحادية أصدرت قرارًا برقم (156) لسنة 2022 أكدت فيه وجوب ضمان حق المجتمع في التصويت”.
ويضيف أن “المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بررت القرار بصعوبات لوجستية تتعلق بالمراقبة واحتمال التزوير وعدم القدرة على إرسال المفوضين إلى الخارج، إلا أن هذه التبريرات بحسب رأيه لا يمكن أن تكون سببًا لحرمان الملايين من حقهم الدستوري”.
ويشير التميمي إلى أن “عدد العراقيين المقيمين خارج البلاد يقدر بأكثر من ثلاثة ملايين شخص، ما يعني أن إقصاءهم من الانتخابات يفقد العملية الانتخابية شريحة مؤثرة وفاعلة”.
ويقترح الخبير القانوني حلولًا عملية، منها “السماح بالتصويت في السفارات والقنصليات، أو عبر البريد الإلكتروني، أو حتى بالوكالة كما هو معمول به في دول مثل فرنسا وكندا ومصر”، مؤكدًا أن “توسيع المشاركة الانتخابية للمغتربين يعزز مبدأ المساواة ويعيد الثقة بين المواطن والدولة”.
علاقةٌ وجدانيَّة
يؤكد الدكتور عدي عبد شمخي وهو أستاذ فلسفة في التربية وعلم النفس، أن “الانتخابات البرلمانية المقبلة تمثل منعطفًا نفسيًا واجتماعيًا مهمًا في وعي العراقيين في المهجر، فهي ليست مجرد حدث سياسي بل مرآة تعكس عمق العلاقة الوجدانية بينهم وبين الوطن”،
كما يوضح أن “العراقي المغترب يعيش اغترابًا مزدوجًا، اغترابًا مكانيًا عن الوطن واغترابًا نفسيًا عن العملية السياسية، نتيجة تراكم الحروب والأزمات التي خلقت لديه شعورًا بالعجز وفقدان التأثير، لذلك يتأرجح موقفه من الانتخابات بين الأمل واللامبالاة، أمل بالتغيير يقابله فقدان ثقة ناتج عن تجارب سابقة”.
ويرى الدكتور عبد شمخي أن “هذه الحالة يمكن وصفها بالاغتراب السياسي، وهو ضعف الإحساس بالتأثير في القرار العام وانخفاض الحافز للمشاركة، لكنها حالة لا تخلو من بذور إصلاح كامنة، فالمغترب العراقي ما زال يحتفظ بصورة مثالية عن وطن عادل وشفاف يستحق أن يبنى من جديد. ومن خلال المقارنة بين الدورات الانتخابية السابقة والحالية يشير إلى أن الخطاب السياسي للمغتربين شهد تحولًا نوعيًا من انفعالي يقوم على الانتماءات الأولية إلى خطاب أكثر وعيًا بالبرامج والكفاءات، بفضل تأثرهم بالبيئات الديمقراطية التي يعيشون فيها”.
كما يضيف أن “الاحتكاك اليومي بنظم العدالة والشفافية في المجتمعات المضيفة وخلق لديهم ما يمكن تسميته بالإحباط المقارن، إذ يشعر المغترب بنقمة حين يقارن بين فاعلية المؤسسات في الخارج وضعفها في بلده، لكن هذا الإحباط يمكن أن يتحول إلى طاقة إصلاحية إيجابية، إذا وجه بخطاب وطني عقلاني يعيد الثقة بالمؤسسات”.
الجذر الأعمق
كما يؤكد أن “الجاليات العراقية رغم غياب تصويتها الفعلي إلا أنها تمارس تأثيرًا رمزيًا واجتماعيًا واسعًا من خلال شبكات التواصل والجمعيات الثقافية، التي أصبحت منصات لتشكيل الرأي الجمعي للمغتربين والتعبير عن طموحاتهم السياسية”.
ويختتم الدكتور عدي عبد شمخي بالقول: إن “استعادة ثقة المغتربين بالدولة تحتاج إلى مداخل نفسية واجتماعية متكاملة تعزز الإحساس بالانتماء وتعيد بناء الصورة الذهنية الإيجابية عن الدولة وتمنح الكفاءات العراقية في الخارج، فرصة للمشاركة في المشروعات الوطنية، فالعراقيون في المهجر يعيشون صراعًا وجدانيًا بين الحنين والانفصال بين الأمل والخذلان، إلا أن انتماءهم للوطن يظل الجذر الأعمق في هويتهم، والانتخابات المقبلة تمثل اختبارًا جديدًا لمدى صمود هذا الانتماء رغم البعد والاغتراب”.
أزمة تصويت
وكانت الانتخابات العراقية السابقة في عام 2021 قد شهدت إلغاء تصويت الخارج للمرة الأولى منذ عام 2005، بعد أن قررت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إيقاف مراكز الاقتراع في السفارات والقنصليات، مبررة ذلك بصعوبة تنظيم العملية وغياب الضمانات الكافية لمنع التزوير.
وأدى هذا القرار إلى جدل سياسي واسع، إذ عده كثيرون انتهاكًا لمبدأ المواطنة المتساوية، فيما دافعت المفوضية عنه باعتباره “إجراءً فنّيًا مؤقتًا” لضمان النزاهة؛ ومنذ ذلك الحين، لم يعاد العمل بآلية تصويت الخارج رغم المطالب المتكررة من الجاليات العراقية.

