شفقنا العراق- إن تُتابع تأثير الخطاب المرجعي لا ينحصر في الاعلام الغربي فقط، وانّما في الموقف العام والخاص كذلك، فلقد اصبح الخطاب المرجعي بمرورِ الأيّام وبالتّجربة باروميتر الاتّجاهات العامّة للمعنيّين والمهتمّين بالملفّ العراقي، ولذلك فالمواقف الحاسمة للخطاب المرجعي في المنعطفات المهمّة والخطيرة التي مرّ ويمرّ بها العراق منذ سقوط نظام الطّاغية الذليل صدّام حسين ولحدّ الآن، تشبه خارطة الطّريق من جهة والخطالأحمر الذي لا يفكّر أَحدٌ في تجاوزهِ من جهةٍ أُخرى، وعلى هذا الأساس يتعامل الاعلام هنا معالخطاب المرجعي، والذي ينعكس ويعكس بدورهِ الكثير من المواقف السّياسية فيما يخصّ العراق.
في نفس الوقت، فانا اعتقد انّنا كعراقيّين مقصّرون في نشر هذا الخطاب في العالم، خاصةً المؤسّسات التّابعة للمرجعيّات الدّينية واخصّ بالذّكر المرجع الاعلى، فاذا كان الاعلام الغربي يتعاملعادةً مع الخطاب السّياسي منه فقط باعتباره في دائرة اهتماماتهِ، فلا ينبغي لنا ان نكتفي بذلك أَبداً،فكلّنا نعرف جيداً ان الخطاب المرجعي ليس سياسة فقط وانّما فيه نوعٌ آخر من الخطاب وهو ربماالاهمّ واقصد به الخطاب الحضاري الذي يشمل التّعريف بجوهر الاسلام الحقيقي الذي تتبنّاه مدرسةأهل البيت عليهم السلام وكذلك ما يشمل منه تبيين الحقائق الفلسفيّة والأخلاقية والتربويّة والاجتماعيّةوالعلاقات الدّوليّة واخلاقيّات الحوار وعلى رأسها حوار الأديان واحترام الرّأي الاخر وكذلكاخلاقيات السّلم والحرب، ان كلّ ذلك وغيرها الكثير من الامور والمفاهيم التي يحملها الخطابالمرجعي، ينبغي ان تنتشر في العالم خاصةً في هذا الظّرف الحسّاس والخطير الذي تمرّ به البشريّة.
وقد اختطف الارهابيّون ديننا ليُعيدوا إنتاجهُ وتقديمهُ للغربييّن وكأنّهُ دين العنف والارهاب والقتلوالذّبح، ليأتي الخطاب المرجعي الحضاري كقراءةٍ مُغايرةٍ تماماً بل متناقضة مع قراءات الارهابيّينالذين يوظّفون التاريخ الأسود للمسلمين والذي كتبتهُ الاقلام المأجورة التي تعتاش على فضلات موائدقصور الخلفاء والامراء والسّلاطين، بالاضافة الى توظيف الرّموز الفاسدة في شروحِهم المنحرفة للإسلام.
انّ مسؤوليّتنا جميعاً بذل الجهد المطلوب لنشر الخطاب المرجعي الحضاري:
١-لحماية الاسلام من عبث العابثين ومحاولات الفاسدين الذين يريدونَ تشويه الاسلام بكلّ الطّرقوالاساليب.
٢-لحماية انفسِنا من عبثهم، ليعرف الآخر بانّ هؤلاء لا يمثّلون إِسلامنا الذي نتبنّاهُ ونؤمن به،والذي يعتمد نصوص وشروح أئمة أَهل البيت عليهم السلام، فإلى متى نظلّ ندفع ثمن (دين) لم نعتقدبه ولم نؤمن به وأَقصد به (دين الارهابيّين) الذي يستند الى شروح العمائم الفاسدة من أمثال ابْنُ تيميةوابن القيم الجوزيّة ومن لفّ لفّهم؟ الى متى ندفع ثمن نصوص لم نعتقد لا بصحّتها ولا بصحّة(فقهائها)؟ لماذا لا يتم الفرز بين المدرستَين لنساهم في انقاذ الرّاي العام العالمي من التّضليل والخلطالمتعمَّد؟
انّ نشر وتدويل الخطاب المرجعي الحضاري في العالم يُساهم بشكلٍ كبيرٍ في إنجاز عمليّة الفرزالمهمّة والضروريّة في هذا الوقت تحديداً، فلنقدّم بضاعتنا الرّاقية للآخر، وفهمِنا للامور وطريقةتفكيرنا وأسُس ومباني عقائدنا وعلى مختلف الاصعدة وكذلك رموزنا التّاريخيّة (أئمة أهل البيت عليهمالسلام) وسِيَرهم العطرة، ليكون الآخر على بيّنةٍ فيميّز بين مدرستَين الاولى تدعو الى الموت والثانيةتدعو الى الحياة، الاولى تحرّض على التّكفير والكراهيّة واحتكار الحقيقة والغاء الآخر والقتلوالدّمار، والثانية تدعو الى الرّأي والرأي الاخر والى الحوار بقوة المنطق والدّليل العلمي الرّصينوالى التعاون والمحبة والسّلم.
انّ الفرز والتمييز بين المدرستَين يدخل اليوم في إطار حريّة التّعبير بالّتي هي احسن، وتلك هيمسؤولية الاقلام الحرّة الشّريفة التي تحرص على حماية الاسلام من التّشويه والتّدليس.
واعتقد انّ المرجعيّة الدّينية لازالت تدعم العمليّة السّياسية، فهي التي أسست لها ورعتها بكلّ كيانها، منذ سقوط الصّنم ولحدّ الان، فلقد ظلّتتوجّهها وترشّدها وتنضّجها بكلّ الطّرق والاساليب وترعى انتقالها من مرحلةٍ الى أُخرى، على الرّغممن كلّ التحدّيات الخطيرة التي مرّت وتمرّ بها.
انّ المرجعيّة الدّينية لازالت تبذل قُصارى جهدها للدّفع باتّجاه بناء الدّولة، بالنّصح والتّوجيه، وفينفس الوقت فانّها تبادر للتدخّل المباشر عندما تشعر انّ ذلك لا يكفي لتحقيق المرجو منه، كما هوالحال بالنّسبة الى دورها المباشر في موضوع (الولاية الثّالثة) لرئيس الحكومة السابق، فعندما شعرَتانّ الإشارات المتكرّرة لم تجد نفعاً تدخّلت بشكلٍ مُباشر لتضع النّقاط على الحروف وتُنهي بذلك الجدلالذي اشغل الجميع بسبب تشبّث الموما اليه بالسّلطة واصرارهِ على التّجديد له!
كذلك بالنسبة لموضوع الحرب على الارهاب عندما أَصدر المرجع الاعلى فتوى الجهاد الكفائيقبل عامَين عندما شعر انّ الإشارات وحدها لا تكفي فبادر لاتخاذ قرارهِ الشّجاع والجريء بالفتوى،وهو الامر ذاتهُ تكرّر فيما يتعلّق بالحربِ على الفساد، فانّ البعض يذهب الى القول بانّ المرجعيّةسكتت عن الفاسدين وقتاً طويلاً قبل ان تُعلن الحرب على الفساد، وهي قراءة غير صحيحة أَبداً،فالمرجعيّة لم تسكت او تتغاضى حتّى لحظة واحدة عن الفساد والفشل، فهذا الخطاب المرجعي أمامنايمكن للمنصف العودة اليه ليتأكّد كم هو تابعَ ولاحقَ ذلك أسبوعيّاً، قبل ان يضع النّقاط على الحروفعندما دعا الى الضّرب بيدٍ من حديدٍ على رؤوس الفاسدين.
وبهذا الصّدد ينبغي الانتباه الى نقطتَين مهمّتَين:
الاولى؛ هي ان المرجعيّة الدّينية لا تعتبر نفسها البديل عن الدّولة ومؤسساتها وعن النّظام السّياسيالقائم وادواتهِ وعلى رأسها الدّستور والقانون، فهي لا تتدخّل في مهام ومسؤوليّات وواجبات مؤسساتالدّولة، فهي مثلاً لا تشرّع قوانين نيابة عن مجلس النوّاب، كما انّها لا تسمّي (العُجول السّمينة)فتحاكمهم وتصدر الأحكام القضائيّة نيابةً عن السّلطات القضائيّة، وكذلك على الصّعيد التنفيذي، فهيلا تقود أفواج المتطوّعين لقتال الارهاب بدلاً عن المؤسّسة الامنيّة والعسكريّة، لانّها تؤمن إيماناً وثيقاًوراسخاً باهميّة بل بوجوب تقوية مؤسّسات الدّولة من خلال عدم التدخّل المباشر في واجباتِهاالدّستورية التي يجب ان يتحمّلها المسؤول في الدّولة لتكريس وترسيخ بناءها.
الثّانية؛ ان المرجعية تعتقد انّ واجبها الدّيني والوطني ينحصر بالنّصح والإرشاد والتّوجيه، فاذا لمينفع كلّ ذلك أحياناً ولا يترك أثراً في الواقع، فتلك مشكلة المسؤولين وليست مشكلتها، وللاسف الشّديدفليس كلّ ما يقولهُ الخطاب المرجعي ويدعو له ويحرّض عليه يلقى آذاناً صاغيةً عند المسؤولين.
يتصوّر البعض انّ على المرجعيّة الدّينية ان تتدخّل في كلّ شَيْءٍ وان تقول كلّ شيء وان تسمّيالأشياء بأسمائها في كلّ شَيْءٍ وفي كلّ آنٍ، بمعنى آخر انّهُ يريدها البديل عن الدّولة ومؤسّساتها وعنالمسؤول في موقعه، وعن المجتمع ودوره! وهو فهمٌ فيه الكثير من الخطأ، فالخطاب المرجعي ليسبديلاً عن أحدٍ، لا في الموقع ولا في الواجبات، وانّما هو عاملٌ مساعدٌ يحرّض كلٌّ في موقعهِوواجباتهِ على تحسين الانجاز والنّجاح في مسؤولياتهِ، من دون ان يستثني كلّ فردٍ في المجتمع.
لا ينبغي لاحدٍ ان ينتظر من الخطاب المرجعي أَكثر من هذا، للتهرّب من واجباتهِ الدّستوريةوالوطنيّة، وليفهم كلّ مواطن سواء أكانً مسؤولاً في الدّولة ام لا، جوهر الخطاب المرجعي ويعملعلى هداهُ في إطارِ الدّستور والقانون والصّالح العام، وهو الامر الاستراتيجي الذي يحرص الخطاب المرجعي على عدم التجاوز عليهِ أَبداً.
بقلم: نزار حیدر /صوت الجالیة العراقیة