شفقنا العراق-هذا العام يصادف مرور مئة عام على ميلاد شاعرة الليل والأشواق نازك الملائكة، رائدة الشعر الحر العراقية التي ولدت في بغداد لكنها توفيت ودُفنت في القاهرة.
وأعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) اختيار الشاعرة العراقية نازك الملائكة رمزاً للثقافة العربية في 2023، وهو الحدث الذي تزامَن مع قُرب الاحتفال بمرور مئة عام على ميلادها.
وتحتلُّ نازك مكانة كبرى في الشعر العربي، عبر مساهمتها في تأسيس ما يعرف اليوم بـ”الشعر الحُر”.
وإضافة إلى هذه المساهمة، خلّفت نازك الملائكة عشرات الكُتب النقدية والدواوين الشعرية، شاهدة على موهبة شعرية قلّما تتكرّر.
نشأة شعرية
وُلدت نازك الملائكة في 23 أغسطس 1923، في محلة العاقولية في بغداد. خلال هذه الفترة كان اسم نازك منتشراً في العراق، وهو منحوت من كلمة “نزاكت” الفارسية، ويعني “الإنسان اللطيف، طيب الخُلق”.
لم يختر والدها صادق الملائكة لقب نازك اسماً لابنته لهذا السبب وحده، وإنما لأنه كان مُعجباً بالثائرة السورية نازك العابد.
لقب “الملائكة” الذي تحمله عائلتها أطلقه عليها الجيران بسبب ما عُرفت به الأسرة من هدوء وجمال للخلق، أما اسم عائلتها الأصلي فهو “آل الجلبي”.
ترعرت نازك في بيئة شعرية صِرفة، فوالدها صادق وخالاها جميل وعبد الصاحب، وأمها سليمة، وجدها لأمها محمد حسن كبّة، وأختها إحسان وأخوها نزار، كانوا جميعا يحسنون كتابة الشعر.
نازك الملائكة الناقدة
في كتابه “نازك الملائكة الناقدة”، أكّد عبد الرضا العلي أن والدها كان ينظم الشعر وله قصائد كثيرة منها أرجوزة في أكثر من 3 آلاف بيت. لكنه رغم ذلك كان يرفض أن يسمّي نفسه شاعراً على سبيل التواضع، كما أنه كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم أهم كتب الأدب العربي ساهمت في تكوين ثقافة الأسرة.
لاحقاً، كشفت نازك أن والدها انشغل طيلة حياته بكتابة موسوعة ضخمة من 20 مجلداً حملت اسم “دائرة معارف الناس” اعتمد على مئات المصادر والمراجع لتأليفها.
أما أمها، فاعتادت نشر القصائد في المجلات تحت اسم “أم نزار الملائكة”. جمعت نازك هذه الأشعار بعد وفاة والدتها في ديوان حمل اسم “أنشودة المجد” نشرته عام 1965.
تحكي نازك أنها تعلمت حُب اللغة وكلماتها منذ صغرها، وهو ما انعكس عليها سريعاً، إذ إن جدها لاحظ فيها اهتماماً كبيراً بالعربية فتنبّأ لها بالنبوغ في الشعر. تربّت نازك مع خالها الذي يكبرها بعامٍ واحد، وكثيراً ما كانا يتبادلان قصائد الهجاء باللغة العامية، وبسببه كتبت نازك أول قصيدة لها وهي في السابعة من عُمرها.
طبَع الشعر بآثاره على شخصية الطفلة نازك وهي في مدرسة “الكرادة” للبنات، فكانت شديدة الخجل، تُحبُّ العُزلة والتطلع إلى السماء حتى أثناء الدروس.
ذاع صيتها في المدرسة بأنها تستطيع كتابة الشعر. تحكي قائلة: “عمري عشر سنوات، ألحّت عليّ زميلة معي أن أنظم قصيدة على اللوح، فاستجبتُ لها ونظمت قصيدة ذات وزن قصير، وذهلت زميلاتي في الصف من قُدرتي، وكانت هذه أول قصيدة فصحى أنظمها”.
تلقّف والدها موهبتها مبكراً، فاعتنى بتدريسها قواعد النحو بنفسه حتى باتت قادرة على نظم الشعر السليم دون أي أخطاء.
في هذه الأثناء تمسّكت نازك بالابتعاد والانزواء أكثر. تحكي “عندما بلغتُ السادسة عشرة أصبحتُ أعدُّ العُزلة فضيلة الشاعر وحرية المفكر، ونبذت المجتمع وانطويتُ على نفسي”.
القصائد الأولى
قصيدة نازك الأولى تألّفت من ستة أبيات، بدأت بـ”ألا يا قوم هبّوا من رقاد\ مكثتم فيه أعواما طوالا”، نُشرت في مجلة الصبح، التي كانت تصدر في بغداد.
وفي آخر سنتها الدراسية المتوسطة، نظمت قصيدة ثانية مطلعها “هب النسيم يداعب الأغصانا\ وبدت ذكاء فأبهجت دنيانا”.
عندما أكملت نازك دراستها الثانوية انتقلت إلى دار المعلمين العالية (كلية التربية)، وخلال دراستها بالكلية، تعرّفت نازك على الشعر الإنجليزي ممثلة في قصائد شكسبير، وتوماس غراي، وفرانسيس تومس، وروبرت بروك، فأحبته وتأثرت به.
اهتمّت نازك بترجمة بعض قصائد الشعر الإنجليزي إلى العربية، مثل قصيدة “الزمن والحب” لشكسبير و”مرثية في مقبرة ريفية” لجراي. هذه الترجمات ضمتها إلى مجموعتها الشعرية المطبوعة الأولى، التي صدرت عام 1947 وحملت اسم “عاشقة الليل”.
تكوّنت هذه المجموعة من 39 قصيدة، 29 منها كانت على الطريقة القديمة الملتزمة بقواعد الخليل بن أحمد. الفراهيدي، و8 كانت على الطريقة الحديثة التي كانت من أول مُبتكريها، التي لا تتقيّد بالأوزان الشعرية التقليدية.
بعد قراءته لكتابها الأول، قال عنها إيليا أبو ماضي: “خلقت لنفسها عالماً من ألم، ووجدت فيه لذاذة ولكنها لما تطلّعت حولها ووجدت الناس غير شاعرين بأن لذلك العالم وجوداً، تولّد في نفسها الاحتقار لهم، لأنهم لا يشعرون شعورها ولا يرون فيه ما ترى”.
ثورة وحرب عالمية وشعرٌ جديد
يقول شمس كمال، في بحثه “نازك الملائكة ومساهمتها في الأدب العربي”، إن الزمن الذي عاشت فيه نازك كان عصر التمازج الثقافي والتلاقح الفكري والانصهار الثقافي الواسع. هو عصر يختلف عن الزمن الذي عاشه الشاعر العربي القديم لا يلتقي بأحدٍ إلا نادراً لذا فإنه كان لا يتحدّث إلا عن الصحراء والجمال والليل والأطلال.
ويؤكد أن نازك ارتبطت بالثقافات غير العربية، وتأثرت بالشعراء والأدباء الغربيين، ليس فقط بسبب قراءتها لهم ولكن نتيجة عيشها فترة من الزمن في الخارج.
تزامن هذا مع بوادر النهضة الحديثة التي بدأت بلاد العرب تعرفها على يدي رفاعة الطهطاوي الذي دعا لتعليم النساء، وقاسم أمين الذي راح يدعو إلى وجوب تعليم الفتيات ومنح المرأة حقوقها الاجتماعية وتنظيم أمور الزواج والطلاق.
في هذه الأثناء، كانت نازك تنشر القصائد على مجلتي “الصبح” و”فتاة العراق”. وفي 30 يوليو 1940 كانت من أولى الفتيات اللائي سُمع صوتهن في إذاعة بغداد بعدما ألقت قصيدة لها فيها، وهو ما اعتُبر حدثاً فريداً وقتها.
انتهت من الكلية بتقدير امتياز عام 1944، بعدما اختارت موضوعاً لغوياً في رسالة تخرُّجها هو “مدارس النحو”، أشرف عليه العلاّمة مصطفى جواد، الذي خلّف أثراً كبيراً في تجربتها الفنية.
بعد تخرجها من قسم الموسيقى في معهد الفنون الجميلة عام 1949، سافرت نازك إلى الولايات المتحدة حيث درست اللغة الإنجليزية وآدابها، بالإضافة إلى اللغة العربية وآدابها حتى حصلت على ماجستير في الأدب المقارن من جامعة “وسكونسن” عام 1956، وأتقنت من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية.
وعند عودتها إلى العراق عام 1958 كانت ثورة تموز\يوليو قد قامت وتركت فيها أثراً كبيراً، فكانت النموذج الأنجح لثورة الكيلاني التي تمردت على الحُكم الملكي عام 1941 إلا أنها فشلت بسبب قمع الإنجليز لها.
حكت نازك عن مشاعرها إزاء حركة الكيلاني قائلة “كنت أتفجّر حماسة لتلك الثورة، ونظمتُ حولها القصائد المتحمسة التي لم أنشر منها أي شيء. فسُرعان ما انتصر الحُكم البوليسي في العراق ودخل عبد الإله على دبابات الجيش البريطاني ونُصبت المشانق للأحرار، ولم يعد في العراق مَن يستطيع التنفس، ولكننا أنا وأمّي استمررنا ننظم القصائد الثائرة سراً نطويها في دفاترنا الحزينة”.
في رحاب الثورة الجديدة، بدأت نازك حياتها المهنية مُدرّسة في دار المعلمين العالية ومنها انتقلت لتدريس الأدب في جامعة البصرة ثم بغداد.
رائدة الشعر الحر
في العام 1947، شاعت في العراق حركة أدبية جديدة عُرفت لاحقاً بِاسم “حركة الشعر الحر”. كانت نازك الملائكة إحدى أكبر المساهمات فيها عبر قصيدتها المعنونة بـ”كوليرا”، والتي كتبتها تأثراً بسقوط آلاف الضحايا بسبب مرض الكوليرا في مصر.
خلال كتابتها لقصيدة “كوليرا” شعرت أن الأوزان والتفعيلة الحاكمة للأبيات الشعرية تُعجزها عن التعبير بما تشعر به من ألم على الضحايا، فقرّرت التمرُّد عليها كلها.
يقول معراج الندوي في بحثه “النزعة الإنسانية في شعر نازك الملاكة”، إنه بسبب أفكار نازك التشاؤمية أحسّت بثقل قيد القصيدة القديمة في التعبير عن هذه الحياة المأساوية، فاعتبرت أن الشعر العربي لم يقف بعد على قدميه، وأنه لم يتحرر من قواعد الأسلاف، وأن القصيدة حتى نهاية الأربعينات ظلّت مقيدة بسلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة.
حتى اليوم، لا يزال هناك خلاف شديد بين النقّاد وبين المؤرخين الأدبيين حول مدى أسبقية الملائكة في نظم الشعر الحر. هل هي الأولى، أم أنها ضمن الأوائل. لكن لا يختلف أحد أنها لعبت دوراً رئيسياً في تأسيس هذا الفن عبر كتابتها النقدية له ومحاولتها وضع بعض القواعد الحاكمة له، وبهذا تجاوزت إسهامات نازك في هذا الفن مجرد كتابة عدة قصائد.
في 1949، نشرت نازك ديوانها الشعري الثاني “شظايا ورماد”، بمقدمة شرحت فيها رؤية كاملة عن قالب الشعر الحر، وتضمّن 6 قصائد جاءت على ذلك المنوال الأدبي الجديد. وبعد عدة دواوين تالية أصدرت أول كتبها في النقد الأدبي عام 1963، وهو “قضايا الشعر المعاصر” الذي قدّمت فيه دراسة مفصّلة للشعر الحر، وحاولت أن تضع له نظاماً عروضياً كاملاً.
يقول رضا العلي: “لا شك في أن موقفيها في “شظايا ورماد” و”قضايا الشعر المعاصر” اختلافاً بيّناً. فبعد أن كانت ترى اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية باتت تميل إلى تقنين الحركة وضبطها”، وهو ما أزعج عدداً من أنصار الملائكة ومريدي الشعر الحر بعدما اعتبروا ما فعلته ارتداداً عن حركتها. فقال الشاعر العراقي عبد الجبار داود، إن نازك “آتت على جميع ما ذكرته في البيان الأول”.
الهروب من العراق
سافرت نازك الملائكة إلى لبنان عام 1959 حيث تعرّفت على زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة، وبقيت في الخارج عدة سنوات حتى عادت إلى العراق عام 1964 لتُساهم -مع زوجها- في تأسيس جامعة البصرة، وعُيّنت رئيسة لقسم اللغة العربية في كلية الآداب.
بعدها بأربع سنوات انتقلت إلى العمل في جامعة بغداد. طيلة هذه السنوات داومت على إلقاء المحاضرات الأدبية وقرض القصائد ثم نشرها في دواوين شعرية لاحقاً.
وعقب وقوع انقلاب 1968 لم تعد الأوضاع في العراق كما تحب الشاعرة العراقية بسبب معارضتها للحُكم البعثي، فقررت الخروج إلى الكويت حيث درّست الآداب في كليتها طيلة 20 عاماً، قبل أن تقرّر العودة إلى بلدها عام 1990.
وحسبما نشرت الشاعرة العراقية ريم قيس كبّة في مقالها “نازك الملائكة: الثائرة الملتزمة”، فإن ظروف الحصار الذي عاشها العراق بعد حرب الخليج الأولى دفعتها إلى السفر إلى الأردن ومنها إلى القاهرة، حيث عاشت في عُزلة ما تبقى من حياتها في انعزالٍ عن الناس حتى أنها لم تحضر الحفل الذي أقامته لها دار الأوبر المصرية احتفاءً بها.
وفي 2007 توفيت نازك متأثرة إصابتها بهبوطٍ حاد في الدورة الدموية.
بعد موتها لم تعد إلى العراق، بعدما دُفنت في مقبرة خاصة بالعائلة في مدينة 6 أكتوبر، بجوار زوجها الذي توفي قبلها ببضع سنوات.
المصدر: ارفع صوتك