شفقنا العراق – اکد العلامة الشيخ محمد صنقور فی خطبة الجمعة بجامع الإمام الصادق (عليه السلام) بمنطقة الدراز ان الدين كفلَ حقوق المرأة فیما ادان العلامة السيد عبدالله الغريفي حديث ليلة الجمعة في مسجد الإمام الصادق (عليه السلام) بالقفول ما وقع في كرباباد.
نص أهم ما جاء فی خطبة الشیخ الصنقور:
نعيشُ هذه الآيامَ ذكرى ميلادِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ع) ونستثمرُ هذه المناسبةَ الجليلةَ للحديثِ بنحو مقتَضَبٍ حولَ سياسةِ عليٍّ (ع) في ادارةِ شئونِ الحكمِ والتي أعلنَ عنها واعتمدَها ابَّانَ تصدِّيه لإدارةِ شئونِ المسلمينَ.
فبعدَ أنْ تمَّت له البيعةُ أعلنَ عن السياسةِ التي عقدَ العزمَ على اعتمادِها في إدارةِ شئونِ المسلمينَ، وحيثُ لا يتسعُ الوقتُ لاستيعابِ ما كان قد أعلنَه واعتمدَه، لذلك سوفَ أقتصرُ على الإشارةِ إلى عددٍ من القواعدِ الأساسيَّةِ التي اعتمدَها في إدارةِ شئونِ المسلمين:
القاعدة الأولى: إنَّ الناسَ ذكورًا واناثًا سواسيةٌ في الحقوقِ، لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ، فلا تمايزَ بينهم في ذلكَ وإنْ اختلفتْ أقدارُهم ومواقعُهم الإجتماعيةُ أو الإعتباريَّةُ وحتى الورع والتقوى والسابقة في الدين فإنَّها لا تصحِّحُ التميُّزَ في الحقوقِ بمقتضى ما أفادَه أميرُ المؤمنينَ (ع) يقول(ع): “فأنتم عبادَ الله، والمال مال الله يُـقّسمُ بينكم بالسويةِ، لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ وللمتَّقينَ عندَ اللهِ غدًا أحسنُ الجزاء ” فتميُّزُ المتقين إنَّما هو في الآخرةِ، وأما في الدنيا فهم وسائرُ الناسِ على حدٍّ سواءٍ في تقاضي الحقوقِ والإلتزامِ بالواجباتِ.
وحينَ عوتبَ أميرُ المؤمنينَ(ع) على التسويةِ بينَ الناسِ في العطاءِ وأنَّ ذلك قد يُوغرُ صدورَ المتنفذينَ فيضر باستقرارِ حكمِه قال (ع): ” أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ، فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ، واللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْمًا، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ..”
ووردَ أنَّ امرأتينِ جاءتا عليًّا (ع) إحداهما من العربِ، والأخرى مِن المَوالي، جاءتاه لتأخذا عطاءَهما فدفعَ إليهما دراهمَ وطعامًا بالسواءِ، فقالتْ إحداهما: إنِّي امرأةٌ من العربِ وهذه ليستْ من العربِ، فقال عليٌّ (ع): واللهِ لا أجدُ لبني إسماعيلَ في هذا الفيئِ فضلًا “
وسياسةُ التسويةِ في الحقوقِ بين الناسِ تطفحُ بها خطاباتُ ومواقفُ عليٍّ (ع) ولا يتسعُ المقامُ لاستيعابِها.
وهنا أودُّ التنبيهَ على أمرينِ:
الأمر الأول: قد يتوهَّمُ البعضُ أنَّ انتقادَ العلماءِ ورفضَهم لاتفاقيةِ سيداو يعني التنكُّرَ لحقوقِ المرأةِ السياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ وحقِّها في التعليمِ والعملِ والمساهمةِ في الأنشطةِ الاجتماعيَّةِ والثقافيَّةِ، وهذا التوهُّمُ لا ينبغي أنْ يخطرَ في ذهنِ أحدٍ، فموقفُ العلماءِ تبعًا لموقفِ الإسلامِ من حقوقِ المرأةِ في كلِّ ذلكَ واضحٌ وبيِّنٌ، فلسنا بحاجةٍ إلى أنْ نستندَ في المطالبةِ بحقوقِ المرأةِ إلى اتفاقيةِ سيداو، فنصوصُ الدينِ قد كفلَتْ حقوقَ المرأةِ كاملةً غيرَ منقوصةٍ، على انَّ الإقرارَ بحقوِق المرأةِ السياسيَّةِ والتعليميَّةِ وغيرِها لا يتوقفُ على الإقرارِ باتفاقيةِ سيداو، فحقوقُ المرأةِ السياسيَّةِ وغيرِها قد تمَّ التأكيدُ عليها في العديدِ من العهودِ والمواثيقِ الدوليَّةِ، فلكم أن تستندوا إلى ما لا ينافي منها القيمَ الدينيَّة.
الأمر الثاني: إنَّ الإسلامَ هو دينُ التسامحِ والتعارفِ والرعايةِ لحقوقِ الإنسانِ، فالناسُ كما أفادَ أميرِ المؤمنينَ(ع) في عهدِه لمالكِ الأشترِ: ” صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ” ومعنى انَّه: ” نظيرٌ لك في الخلقِ” هو انَّه نظيرٌ لك في الإنسانيَّةِ، فكلُّ حقٍّ يثبتُ لأحدٍ بصفتِه الإنسانيَّةِ فهو يثبتُ لغيرِه ممَّن يشتركُ معه في الإنسانيَّةِ دونَ تمييزٍ، فالدعوةُ والتأكيدُ على ضروةِ الوحدةِ الوطنيَّةِ بين مكوِّناتِ المجتمعِ ليس خيارًا مرحليًّا ومؤقَّتًا بل هو خيارٌ نابعٌ من ايمانِنا باشتراكِ الناسِ دونَ تمييزٍ فيما لهم من حقوقٍ انسانيَّةٍ، ولكنَّ الإيمانَ بضرورةِ التعزيزِ للوحدةِ الوطنيَّةِ والإحترامِ المتبادَلِ لا يُصحِّحُ القبولَ بالتذويبِ بل وحتى الاختراقِ الفكريِّ والعقديِّ والقيميِّ لأبنائِنا فكلُّنا مسئولٌ عن العملِ ما وسعَه على تحصينِهم من كلِّ ما يُنافي الدينَ من خطيرٍ وحقيرٍ معتمدينَ في ذلك الوسائلَ العقلائيَّةَ وهي الكلمةُ الطيبةُ والبرهانُ والوعظُ والنصيحةُ، وأما الغمزُ واللمزُ فضلًا عن التهويشِ والتشغيبِ فليس ذلك من أخلاقِنا.
عودة إلى القواعدِ الأساسيَّةِ التي اعتمدَها عليٌّ (ع) في إدارةِ حكمه:
القاعدة الثانية: إقامةُ الحقِ أيًّا كانت كُلفتُه، والحكمُ بالعدلِ في مختلفِ الظروفِ، وانصافُ المظلومِ، والأخذُ للضعيفِ من القويِّ، فكان (ع) يقولُ: ” إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ – وإِنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ- مِنَ الْبَاطِلِ وإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وزَادَهُ..” ويقولُ (ع): ” فإنَّ الحكمَ في إنصافِ المظلومِ من الظالمِ، والأخذَ للضعيفِ من القويِّ.. ممَّا يُصلحُ عبادَ اللهِ وبلادَه” ويقولُ (ع): ” الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ – والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ..” وكان يُقسمُ صادقًا ويقولُ: ” واللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّدًا، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّدًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهً ورَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ وغَاصِبًا لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ..” وكان (ع) يُؤكِّدُ أنَّ: ” العدلَ قِوامُ البريّةِ” وأنَّ: ” الرعيَّةَ لا يُصلحُها إلاّ العدلُ ” وأنَّه: “ما عُمِرَتْ البلدانُ بمثلِ العدلِ” وأنَّه: ” لنْ تُحصَّنَ الدولُ بمثلِ استعمالِ العدلِ فيها”.
القاعدة الثالثة: اعتمادُ سياسةِ الصّدقِ وعدمِ المُداهنةِ، يقولُ (ع): يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ كُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ.. أَلَا وإِنَّ الْغَدْرَ والْفُجُورَ والْخِيَانَةَ فِي النَّارِ” ويقولُ (ع): “لا أُداهنُ في ديني، ولا أُعطي الدنيَّةَ في أمري”. ووردَ عنه قولُه: ” لا يُقيمُ أمرَ اللهِ سبحانَه إلاّ مَن لا يُصانِعُ، ولا يُضارِعُ، ولا يتِّبعُ المطامعَ”.
القاعدة الرابعة: اختيارُ العُمّالِ الصالحينَ مِن ذوي الكفاءةِ ثم عدمُ التعويلِ على صلاحِهم وكفاءتِهم دونَ مراقبتِهم ومحاسبتِهم وادانةِ كلِّ من يَتورَّطُ منهم بفسادٍ، يقولُ (ع) لمالكٍ الاشترِ: “فاصطفِ لولايةِ أعمالِك أهلَ الورعِ والعلمِ والسياسةِ.. وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ.. ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَارًا، ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ.. ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأَمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ ” ثم تصدَّى الإمامُ (ع) في عهدِه لمالكِ الأشترِ للتأكيدِ على ضرورةِ ايقاعِ العقوبةِ على كلِّ من ثبتَ تورُّطهُ بفسادٍ، وأفادَ انَّ معاقبتَه في السرِّ ليستْ كافيةً، فلا بد من التشهيرِ به ليكونَ ذلك رادعًا لكلِّ من تُحدِّثُه نفسُه بفسادٍ، يقولُ (ع): ” فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيَانَةٍ، اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِدًا، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ”
وقد أُثرَ عنه (ع) أنَّ عاملًا له على سوقِ الأهواز يُدعى ابن هرْمة تورَّطَ بخيانةٍ وفسادٍ، فبعثَ الإمامُ (ع) إلى رفاعةَ قاضيه على تلكَ الناحيةِ: “إذا قرأَتَ كتابي فنحِّ ابنَ هرمه عن السوقِ، وأوقفْه للناسِ واسجنْه ونادِ عليه… وإذا كان يومَ الجمعةِ فأخرِجْه من السجن واضربْه خمسةً وثلاثينَ سوطًا وطُفْ به في الأسواقِ… “
وكان (ع) ينهي عمّاله عن أخذِ الهديَّةِ فضلًا عن الرشوةِ، يَقولُ(ع): “أيُّما والٍ احتجبَ عن حوائجِ الناسِ احتجبَ اللهُ عنه يومَ القيامة وعن حوائجِه، وإنْ أخذَ هديةً كان غلولًا – أي خيانةً- وإنْ أخذَ رشوةً كان على حدِّ الشركِ في الإثم.
نص أهم ماجاء فی حدیث السید الغریفی:
عليٌّ (عليه السَّلام) عنوانُ الجنَّةِ والتسامح:
نقرأ في نهج البلاغةِ أنَّ عليًا (عليه السَّلام) سَمِعَ قومًا مِن أصحابِهِ يَسبُّون أهلَ الشَّام أيام حربِهم بصفين فقال:
«إنِّي أكره لكم أنْ تكونُوا سبَّابين، ولكن لو وصفتم أعمالَهُمْ، وذكرتُمْ حَالَهُمْ كان أصوبَ في القَوْلِ، وأبلَغَ في العُذرِ، وقُلتُمْ مكانَ سبِّكم إيَّاهُمْ: اللهُمََّ احقِنْ دماءَنا ودماءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذاتَ بينِنا وبينهم، واهْدِهِم من ضلالتِهم، حتى يَعْرِفَ الحقَّ مَنْ جَهِلَهُ، ويَرْعَوي عن الغَيِّ والعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ به».
هكذا يؤسِّسُ عليٌّ (عليه السَّلام) (منهجًا) لا يقوم على الكراهية وحبّ الانتقام، حتَّى مع الذين ظلموه وحاربوه، إنَّه (منهج الحبِّ) حبّ الخير لكلِّ النَّاس، وحبّ التآلف والتقارب، وحبّ الهداية والرَّشاد…
كان بإمكانِ علي (عليه السَّلام) أنْ يُغذِّي عند أصحابه (روح الكراهية والانتقام) ضدَّ أهل الشَّام وهم الذين احتشدوا متعطِّشين إلى دمه، ومملوئين حقدًا وكراهيةً له، ومعلنين الحرب ضدَّه.
عليٌّ (عليه السَّلام) يُمثِّلُ (قيم السَّماء) وهي قيمٌ صاغتها شرائعُ الله من أجل صنع الحياة الأنقى والأطهر والأنظف، وما كان عليٌّ على استعداد أنْ يتنازل عن هذه القيم ولو أُعطيَ الدُّنيا بما فيها، أليس هو القائل:
- «واللهِ لو أُعطيتُ الأقاليمَ السَّبعةَ بما تحت أفلاكِها على أنْ أعصي اللهَ في نملةٍ أسلبُها جُلبَ شعيرةٍ ما فعلتُ…».
انطلاقًا من هذه القيم الرَبَّانية جاء موقفُه (عليه السَّلام) من هؤلاء الَّذين انفعلوا بأجواء الحرب والمواجهة مع أهل الشَّام ظانِّين أنَّ هذا يسوِّغ لهم أنْ يُطلقوا ألسنتَهم بالسَّبِّ والشتم ما دام ذلك ضدَّ أعداءٍ شرسين لا يعرفونَ معنى للمثل والقيم، نعم جاءَ موقفُ عليٍّ عليه متشدِّدًا في الإنكار عليهم، كما هي مواقفه دائمًا في قضايا الحقِّ إنَّه أراد أنْ يكون أصحابه (نماذج راقية) في تجسيد (مُثُلِ الدِّين) وأنْ لا تحكمهم (المزاجية والانفعالات) فيسقطوا في منزلقات الهوى، وإملاءات النفس، واستفزازات الشيطان..
هكذا قالها عليٌّ (عليه السَّلام) لأصحابه: «إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين».
والكراهة في كلمةِ عليٍّ (عليه السَّلام) لا تعني ما تعنيه (الكراهة) في مصطلح الفقهاء…
الكراهة في هذا المصطلح (الردع عن الاتيان بشيئ مع الترخيص بفعله) فالنهي هنا (نهيٌ تنزيهي) وليس نهيًا تحريميًا… فالكراهة في مصطلح الفقهاء لا تعني (الحرمة) حيث أنَّ النهيَ في الحُرمة (نهيٌ إلزامي) لا ترخيص في فعله…
فحينما يقول عليٌّ (عليه السَّلام) في كلمتِهِ: «إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين» فهو لا يريد أنْ يجنِّبهُم (السُّبابَ) تجنيبًا تنزيهيًا، وهو مساوق للرخصةِ في فعلِهِ، الأمر ليس كذلك، (الكراهة) هنا تساوق (الحرمة)، فمفردة (الكراهة) في الكثير من النصوص تحمل مدلول (الحرمة) ما لم تتوفر قرائن لفظية أو مقاميةٌ تصرفُها عن ذلك.
فحينما يقول الله تعالى في سورة الإسراء/ الآية 38: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ فالآية تعني أنَّ ما تقدَّم في الآيات السَّابقة من أخلاق سيئة والتي تمثِّل معاصي تغضب الله هي أمور مكروهة عنده سبحانه، لأنَّه تعالى يكره كلَّ قبيح من الأخلاق والأفعال.
فالكلمة الصَّادرة عن عليٍّ (عليه السَّلام) حينما قال: «إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابي» فهي مساوقة لقول الله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾.
فعليٌّ (عليه السََّلام) حينما (يَكْرهُ) لا ينطلق من (ذاتيه) ولا من (مزاجيةٍ انفعالية) فهو (يكرَهُ) ما يكره اللهُ ورسولُهُ (صلَّى الله عليه وآله) لأنَّ (عليًا) مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ، ولأنَّ (عليًا) مع القرآن والقرآن مع عليٍّ…
وإذا كان عليٌّ (عليه السَّلام) صُلْبًا كلَّ الصَّلابة في الدِّين، وقويًّا كلَّ القوَّةِ في ذات الله، وجريئًا كلَّ الجُرأةِ في مواقفِ الحقِّ، وفي الدِّفاعِ عن المظلومين والمحرومين والمستضعفين،
- «وأَيْمُ اللهِ لأُنْصِفَنَّ المظلومَ من ظالمِهِ، ولأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِه حتى أُوْرِدَهُ مَنْهلَ الحقِّ وإنْ كان كارهًا».
فإنَّه متسامحٌ كلّ التسامح حينما يكون داعيةَ هُدى، ومُبلِّغَ رسالةٍ، ومؤسِّس مبادئ، وصانِعَ مُثُلٍ، وعنوانَ رحمةٍ…
هذا هو نهجُ عليّ (عليه السَّلام)..
فماذا كان النهج الآخر الذي واجه عليًا، وواجه أهل بيته؟
لما استقر الأمر إلى معاوية أصدر مرسومًا يأمر عمَّاله في كل الأمصار أنْ يسبُّوا عليًا على المنابر، وأنْ يبرأوا منه، ويقعوا فيه وفي أهل بيته…
وقد بلغ عدد المنابر التي يُسبُّ من عليها عليٌّ وأهلُ بيته في الشام والعراق والحجاز وبقية البلدان أكثر من (سبعين ألف منبر) حتَّى صاروا يتباهون بذلك، ويعدُّونه من المناقب والمفاخر، حتى قال قائلُهُم: “ما منَّا رجلٌ عُرِضَ عليه شتمُ أبي تُرابٍ ولعنِهِ إلَّا فعل وزاد ابنيه حَسَنًا وحُسينًا وأمُهما فاطمة”.
هكذا كانت ثقافة السائرين في ركب النظام الأموي، وما كانت ثقافة كلِّ الأمةِ، فالمسلمون كُلِّ المسلمين كان يؤذيهم أنْ يُسبَّ آلُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنْ يُطارد آلُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنْ يُقتل آلُ رسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلم).
حتى أثارتْ الغيرة بعض المسلمين فدخل أحدهم على معاوية فقال له: لقد بلغت ما أمَّلتَ، فلو كففتَ عن سبِّ عليٍّ فأجاب: لا حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير…
واستمرت هذه البدعة الملعونة حتى جاء الحاكم الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فأزالها ومنع عنها…
أمّا السَّبب فيتحدث عنه عمر بن عبد العزيز نفسه حيث يقول: “كنت أقرأ القرآن على بعضِ وُلد عُتبة بن مسعود، فمرَّ بي يومًا وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليًا، فكر ذلك، ودخل المسجد، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه، فلمَّا رآني قام فصلَّى، وأطال في الصَّلاة شبه المعرض عنِّي، حتى أحسستُ منه ذلك، فلمَّا انفتل من صلاتِهِ كلَحَ في وجهي، فقلت له: ما بال الشيخ؟
فقال: أنت اللاعن عليًا منذ اليوم؟
قلت: نعم، قال: متى علمتَ أنَّ الله سخط على أهل بدر، وبيعة الرضوان بعد أنْ رضي عنهم؟
فقلت: هل كان عليٌّ من أهل بدر؟
قال: ويحك، وهل كانت بدر كلُّها إلَّا له؟!
فقلت: لا أعود.
فقال: تعطيني عهد الله أنَّك لا تعود.
قلت: نعم، فلم ألعنه بعدها».
فمن الظلم أنْ نتَّهم كلَّ الأمة أنَّها سقطت في المشروع الأموي، وحتى اليوم فإنَّ أغلب المسلمين بكلِّ طوائفهم ومذاهبهم يعتبرون ما صدر في تلك المرحلة من التاريخ (لوثة كبيرة) فإنَّ سن (بدعة السَّب) أنتج واقعًا خطيرًا كانت له تداعياتُه المدمِّرة على أوضاع المسلمين.
ورغم أنَّ أهل البيت (عليهم السَّلام) واجهوا أقسى السِّياسات في ذلك التاريخ، إلَّا أنَّهم تَعَالوا على كلِّ الجراحات، وواجهوا مشروعات التفتيت والتمزيق لوحدة الأمة، وأكَّدوا على أتباع مدرستهم أنْ يتعايشوا بكلِّ محبَّةٍ مع بقية المسلمين، وأنْ يحرصوا كلَّ الحرص على الوحدة والألفة والتقارب.
ويمكن أنْ نقرأ هذا في وصايا وتوجيهات أئمةِ أهلِ البيت (عليهم السَّلام)
- عن معاوية بن وهب قال: قلت للإمام الصَّادق (عليه السَّلام): كيف ينبغي لنا أنْ نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من النَّاس ممَّن ليسوا على أمرنا؟
فقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «تنظرون إلى أئمَّتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعونَ ما يصنعون، فوالله إنَّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدُون جنائزَهم، ويقيمونَ الشَّهادة لهم وعليهم، ويؤدُّون الأمانةَ إليهم».
- وعن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله [الإمام الصَّادق] (عليه السَّلام) يقول:
«أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾
ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلُّوا معهم في مساجدهم».
هكذا كان أئمة أهل البيت (عليهم السَّلام) دعاة وحدة ومحبَّة وتسامح، فيجب على كلِّ مَنْ ينتمي إلى نهج الأئمة (عليهم السَّلام) أنْ يكونوا كذلك…
فلسنا حينما يكون خطابنا خطابَ وحدةٍ ومحبةٍ وتسامحٍ مُزايدين، ولا مُتزلِّفين، ولا صُنَّاعَ شعارات، وإنَّما هي القناعة المتأصلة في عقولنا وقلوبنا، وحركتنا، هذه القناعة التي غذَّتها فينا كلماتُ أئمتِنا وهداتِنا وقادتنا…
وعندما نتحدَّثُ عن خطابِ وحدةٍ ومحبَّةٍ وتسامح لا يعني أنْ تكون الكلمةُ مداهنةً للفساد والانحرافِ والخطأ، في أيِّ موقعٍ يكون ذلك، وفي أيِّ مساحة يتحرَّك، الكلمةُ المداهنةُ للباطل لا تحمل أمانةَ المسؤولية، والكلمةُ الخرساءُ حينما تكون الحاجة إلى النطق تكون خائنة للأمانة،
وهذا لا يعني أنْ نُعطي للكلمةِ الحق أنْ تكون سيئةً فيما هي اللغة والألفاظ، وأنْ تكون طائشة فيما هو النهج والأسلوب…
عليٌّ (عليه السَّلام) في الكلمة المتقدِّمة لم يسمحْ لأصحابه أنْ يكونوا (سبَّابين وشتامين) ولكنَّه سمح لهم أن يمارسوا النقد والمحاسبة «ولكن لو وصفتم أعمالَهُم، وذكرتم حالَهم، كان أصوبَ في القول، وأبلغ في العذر».
ثمَّ عقَّب بقوله:
«وقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللهُمَّ احقِن دماءنا ودماءَهم، وأَصْلِحْ ذات بيننا وبينهم».
فكم كان عليٌّ (عليه السَّلام) حريصًا أن لا تراق أيّ قطرةٍ دمٍ من دماءِ المسلمين، وإن كانوا من الَّذين وقفوا ضدَّه، واستباحوا دمَهُ…
كلمتان أخيرتان:
1- انطلاقًا من رؤيةٍ شرعيةٍ واضحةٍ كلَّ الوضوح يتشكَّل موقفنا في رفض أيّ عملٍ يُمثِّل تطرُّفًا وعنفًا وإرهابًا، وفي شجبِ أيِّ اعتداءٍ على الأرواح، فالدِّماء مصانةٌ ولها حرمتُها العظيمةُ في شرعِ اللهِ تعالى.
وتأسيسًا على ذلك فإنَّ ما وقع في كرباباد – وفق ما أعلنت عنه وزارة الداخلية – أمر شائنٌ ومدانٌ ومرفوض، لا نقول هذا مزايدةً وإرضاءً لأحدٍ، وإنَّما هي الاستجابة لتوجيهات الدِّين.
إنَّنا نُريد لهذا الوطنِ أنْ يتعافى من أزماتِه، فالأوطانُ المسكونةُ بالأزماتِ بيئاتٌ رخوةٌ، سَهْلةُ الاختراقِ، ومرشحةٌ لانزلاقاتٍ صعبةٍ، ومآلاتٍ مُقْلقةٍ…
فما يُحصِّنُ الأوطانَ هو إنهاءُ الأزمات، لتكون الشعوبُ حارسةً لأمن البلدان، مؤازرةً لجهود الأنظمة الحاكمة، ومتى تلاحمت إراداتُ الأنظمة والشعوب كانت الأوطانُ والبلدانُ منيعةً، وعصيةً على كلِّ أشكالِ الاختراق.
2- أصدر العلماءُ بيانًا عبَّروا فيه عن قلقهم الشَّديد لاستمرار استدعاءاتِ وتوقيفاتِ علماءِ دينٍ وأئمة جمعة كونهم مُحرِّضين، أو كونهم يتعاطون مع الشأنِ السِّياسي.
ما نعرفه عن هؤلاء العلماء الأجلَّاء أنَّهم على درجة عالية من الفضل والرُّشد، فلا نظنُّهم ينزلقون إلى لغة التحريض والإثارات الضَّارة بأوضاع هذا الوطن، ولا نظنُّهم يَدخُلون في تجاذباتِ السِّياسة ومعتركاتها، وإنما هي الكلمة الناصحة التي تريد الخير لهذا البلد ولهذا الشعب، وإنَّما هو القولُ الصَّادقُ الَّذي يحملُ كلَّ الحبّ والتسامح، ويدعو إلى التآلف والتقارب، وربَّما قارَبَ بعض أخطاءٍ لا بدَّ من مقاربتها، مساهمةً في تحصين هذا الوطن من كلِّ المنزلقات والأخطار وليس بدافع السُّوء والشر، وإذا كان هناك مَنْ يريد أنْ يفهم كلَّ محاسبة هي عداءٌ للنظام وللوطن، فهذا فهمٌ ضارٌ جدًّا، ويؤسِّسُ لتأزّمات ليست في صالح هذا الوطن.
النهایة