الجمعة, أبريل 19, 2024

آخر الأخبار

“فيتو” أميركي في مجلس الأمن يسقط مشروع الجزائر لمنح فلسطين عضوية الأمم المتحدة

شفقنا العراق- استخدمت الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي...

وزيرة الاتصالات تبحث مع سفير مصر بالعراق تطوير شبكة الاتصالات العراقية

أكد السفير أحمد سمير سفير مصر لدى العراق، أهمية...

السوداني يؤكد لشركة KBR جدية الحكومة في توفير بيئة مناسبة للاستثمار

شفقنا العراق- أكد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،جدية...

القاضي حمزة: التعاون القضائي مع سوريا وإيران خطوة مهمة في مكافحة الإرهاب

شفقنا العراق ــ فيما كشف أن الاجتماع القادم للجنة...

المرور: حصر العمل بالدفع الإلكتروني اعتبارًا من أيار

شفقنا العراق- أعلنت مديرية المرور العامة، اليوم الخميس، عزمها...

الداخلية: انخفاض في جرائم القتل العمد والدكة العشائرية

شفقنا العراق- أعلنت وزارة الداخلية، تسجيل انخفاض في جرائم...

محافظ البنك المركزي: شركة دولية لتطوير المصارف العراقية

شفقنا العراق- اعلن محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق...

مستشار حكومي: جذب الاستثمارات الأمريكية إحدى نتائج زيارة السوداني

شفقنا العراق ـ على ما يبدو أتت زيارة رئيس...

السوداني يبحث مع وفد “معهد بيكر” لبحوث الطاقة التعاون في تأهيل الكوادر

شفقنا العراق- فيما أعلن عزم الحكومة توسعة صناعة البيتروكيمياويات،...

صناعة الأسمدة في العراق.. مشاريع واعدة في سياق إحياء الصناعة الوطنية

شفقنا العراق ــ بعد توقف دام لسنوات بسبب ظروف...

سهر الأطفال.. الأسباب والأضرار والحلول

شفقنا العراق- أكدت دراسات عديدة أضرار السهر وخاصة سهر...

برلماني يكشف عن استراتيجية حكومية لوضع العراق على قائمة منتجي “الوقود الأزرق”

شفقنا العراق- فيما أشار إلى إدراك الحكومة العراقية أهمية...

ضمن تصنيف عالمي.. جامعة بغداد تسجل منجزًا علميًا في 5 تخصصات

شفقنا العراق- انفردت جامعة بغداد عن الجامعات العراقية الأخرى،...

محافظ النجف يدعو للتعاون مع الحكومة المحلية لإدارة المطار والإشراف عليه

شفقنا العراق- فيما دعا إلى للتعاون مع الحكومة المحلية...

العراق يوقع على “اتفاقية سنغافورة” للوساطة الدولية والتحكيم التجاري

شفقنا العراق - لتيسير التجارة الدولية، وقع رئيس الهيئة...

السوداني يدعو الشركات الأمريكية إلى الانخراط بشراكات مع القطاع الخاص العراقي

شفقنا العراق ــ فيما كشف عن الاتفاق مع شركة...

السوداني ..زيارة واشنطن أتت لإرساء العلاقات الثنائية

شفقنا العراق ـ أكد رئيس مجلس الوزراء السيد محمد...

“المعرفة والرسالة الحسينية”.. عنوان مؤتمر دولي في كربلاء

شفقنا العراق ــ تحت شعار "الثقافة والشعائر الحسينية وعالمية أثرها"، أقام...

جامعة الكفيل تستذكر فاجعة هدم مراقد أئمة البقيع وتناقش قانون العمل وتطبيقاته

شفقنا العراق-فيما نظمت مجلسًا عزائيًّا لإحياء ذكرى فاجعة هدم...

المندلاوي من تركيا: ضرورة القضاء على الفكر الإرهابي

شفقنا العراق ـ فيما دعا إلى التعاون من أجل...

مدينة الحلة.. نقص في البنى التحتية ومطالب بتحسين الواقع الخدمي

شفقنا العراق- رغم تصريحات عدد من المسؤولين بأن مدينة...

تحذيرات من انتشار التسول الإلكتروني في العراق

شفقنا العراق- التسول الإلكتروني من خلال فضاء المنصات ينتشر...

طريق التنمية.. مشروع واعد وفرصة اقتصادية مهمة للعراق

شفقنا العراق ــ يرى خبراء بأن طريق التنمية واحد...

وزير التجارة: تحقيق الأمن الغذائي على مستوى محصول الحنطة

شفقنا العراق-صرح وزير التجارة بأنه، تم تحقيق الأمن الغذائي...

الخطاب العاشورائي.. خصائصه والمقصود منه وتأثير الزمان عليه؛ بقلم العلامة الشيخ معين دقيق العاملي

شفقنا العراق-الكثير منّا ـ بنسيانٍ تارةً، وتناسٍ أُخرى، وجهلٍ ثالثة ـ ينظر إلى واقعة كربلاء وما وقع على حاشيتي الزمان قبل الحدث الفاجعة وبعده على أنَّه مجرّد تراجيديا أليمة فحسب… والحال أنَّ تراجيدية كربلاء المؤكّد عليها في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام  وإنْ كانت محلاً للتركيز في حدّ ذاتها بلا إنكار، ولكن لا تمنع نفسيتها لذلك، وللثواب الجزيل المترتّب عليها أنْ نسلّط الضوء عليها من أبعادها المختلفة، ولا يمنع ما تقدّم أنْ تكون تلك التراجيدية مقدّمة مهمّة للوصول إلى أهداف أهم.

ولتقريب الفكرة نتأمّل في نظير لذلك، أعني مسألة النوافل؛ فإنّها من المستحبات النفسية التي يترتّب عليها الثواب في حدّ ذاتها، ولكن ثوابها النفسي واستحبابها الذاتي لم يمنع من أن تكون مقدّمة لهدف أهم، وقد أُشير إلى ذلك في بعض النُّصوص:

فعن الصدوق بإسنادٍ صحيح إلى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام : ((إِنَّ العَبْدَ لَيُرْفَعُ لَهُ مِنْ صَلاتِهِ نِصْفُهَا أَوْ ثُلُثُهَا أَوْ رُبُعُهَا أَوْ خُمُسُهَا، وَمَا يُرْفَعُ لَهُ إِلاَّ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا بِقَلْبِه،ِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّوَافِلِ لِتَتِمَّ لَهُمْ بِهَا مَا نَقَصُوا مِنَ الفَرِيضَةِ))[1].

وعنه أيضاً بإسناده إلى عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام ، قَالَ: ((قُلْتُ لأَيِّ عِلَّةٍ أَوْجَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله صَلاةَ الزَّوَالِ ثَمَانٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَثَمَانٍ قَبْلَ العَصْرِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ رَغَّبَ فِي وُضُوءِ المَغْرِبِ كُلَّ الرَّغْبَةِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ أَوْجَبَ الأَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ بَعْدِ المَغْرِبِ؟ وَلأَيِّ عِلَّةٍ كَانَ يُصَلِّي صَلاةَ اللَّيْلِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؟ وَلا يُصَلِّي فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: لِتَأْكِيدِ الفَرَائِضِ؛ لأَنَّ النَّاسَ لَوْ لَمْ تَكُنْ صَلاتُهُمْ إِلاَّ أَرْبَعَ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ لَكَانُوا مُسْتَخِفِّينَ بِهَا حَتَّى كَادَ يَفُوتُهُمُ الوَقْتُ، فَلَمَّا كَانَ شَيْئاً غَيْرَ الفَرِيضَةِ أَسْرَعُوا إلى ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ العَصْرِ لِيُسْرِعُوا إلى ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ سَوَّفْنَا وَنُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ الزَّوَالَ يَفُوتُنَا الوَقْتُ…))[2].

ففي هذين الخبرين دلالة واضحة على أنَّ النوافل ـ على الرغم من كونها من المستحبات النفسية، والتي يكون ثوابها على مجرّد إتيانها بشروطها ـ قد شُرّعت لتأكيد الفرائض التي هي أهمّ من النوافل.

وهكذا الحال في مسألة البكاء، وسكب العبرات، والتباكي، والنَّدْب، وغير ذلك من المفردات المرتبطة بتراجيدية كربلاء؛ فإنّ ذلك كلّه وإنْ كان مهمّاً في حدّ ذاته، ومطلوباً في نفسه، لكنّه مع كلّ ذلك تكمن أهمّيته القصوى في كونه مقدّمة ليبقى المجتمع في كلّ عصر ومصر متفاعلاً مع أهداف الثورة وغايات القيام بوجه الظالمين.

فإذا كان الهدف الأقصى لاستحضار فاجعة كربلاء هو الوصول إلى الأهداف التي أرادها صاحب النهضة؛ لكي تسير الأُمم والشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة على هذا النهج القويم في مقارعة الظلم ومحاربة الفساد، فدراسة الخطاب العاشورائي يحظى بأهمية كبرى في فهم واقعة عاشوراء على حقيقتها؛ لكونه هو المبرز المباشر لأهداف تلك النهضة وغاياتها.

إشكالية البحث:

هذا، وبعد وضوح أهمّية موضوع المقال، نسلّط الضوء على أسئلته التي تتكوّن منها إشكالية البحث، وهي:

السؤال الأصلي: ما هي خصائص الخطاب العاشورائي؟

الأسئلة الفرعية:

1 ما هو المقصود من الخطاب العاشورائي؟

2 ما هو دور الزمان في الحدث العاشورائي وتأثيره على الخطاب؟

3 ما هو المنحى الذي اتّجه إليه الخطاب العاشورائي من ناحية العقلانية والعاطفة؟

المقصود من الخطاب العاشورائي:

لا نقصد من الخطاب العاشورائي في هذا المقال خصوص ما صدر على لسان الإِمام الحسين عليه السلام ، وفي اليوم العاشر من المحرّم، ولا نقصد به كلّ ما صدر مِمّن يرتبط بواقعة عاشوراء، سواء كان إلى طرف معسكر الخير الذي يمثّله البيت الهاشمي أم إلى معسكر الشّر الذي يمثّله البيت الأُموي، بل نقصد بهذا الخطاب: كلّ خطاب صدر من الإِمام الحسين عليه السلام  ومَن كان في خطّه، سواء كان زمن الخطاب ومكانه عاشوراء وكربلاء، أم كان قبل ذلك، لكن في سياق السيرورة نحو النهضة الحسينية.

وعلى هذا الأساس؛ فكلّ خطاب صدر من الحسين عليه السلام  وأهل بيته، وصحبه الذين بذلوا مهجهم دونه، في إطار الوصول إلى نقطة الحسم زماناً ومكاناً ـ اليوم العاشر من محرّم في كربلاء ـ يعتبر موضوعاً لهذه الدراسة المختصرة، ويكون البحث عن خصائصه ومقوماته.

وخصائص الخطاب العاشورائي وإنْ كانت كثيرة، إِلاَّ أنَّ التركيز في هذا المقال على خصيصتين قد أُغفلتا في كثيرٍ من الكتابات حول النّهضة العاشورائية.

الخصيصة الأُولى: التجرُّد عن الزمان والمكان

يأتي على رأس الخصائص التي يتميّز بها الخطاب الحسيني أنَّه مجرّدٌ عن الزمان والمكان، فالزمان والمكان ـ الذي لا بدّ منه في كلّ خطابٍ ـ مجرّد ظرفٍ لذلك الخطاب، من دون أنْ يغرق الخطاب في ظرفه الزماني والمكاني ويذوب فيه، بحيث لو جرّد الخطاب عن ظرفه لما كان له مدلوله وأهدافه.

وهذه خصيصة مشتركة في كلّ كلام يصدر من متكلّم مرتبطٍ بالوحي، يخاطب الذات الإنسانية مع قطع النظر عن امتيازاتها الفردية والشخصية.

فالخطاب العاشورائي نظير الخطاب الصادر من الطبيب الذي يصف الدواء لكلّ داء، من دون أنْ يكون فردية الفرد لها دخالة في وصفة الطبيب.

ولأجل ذلك صار الخطاب العاشورائي خطاباً خالداً، ويبقى حيّاً يتجدّد على مرّ العصور واختلاف الأزمنة:

كذب الموتُ فالحسينُ مخلّدُ *** كلّما أخلق الزمانُ تجدّد

فالحسين وخطاباته ستبقى مناراً لكلّ حرّ في كلّ مكانٍ ليوم الحساب وقيام الساعة:

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب *** مناراً به تهتدي الكائنات

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب *** حديثاً تجدّده الذكريات

ويبقى الحسينُ ليوم الحساب *** نشيداً على الألسن الناطقات

وبحسب الاصطلاح: إِنَّ الخطاب الحسيني خطابٌ على نهج القضية الحقيقية، التي وإنْ كان لها شأنُ نزول، إِلاَّ أنَّه لا يجعل الخطاب خاصاً به.

فالخطاب الحسيني كانت غايته أحد أمرين:

ـ إقامة الحجّة على المباشر.

ـ جعله قنطرة للعبور إلى المعدوم والذي سيولد على امتداد زمان البشرية.

وذلك لأنّنا رُوّينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث صحّ عنه صلى الله عليه وآله قوله: ((سيكون في أُمتي كلّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لو أنَّ أحدهم دخل في جحر ضبّ لدخلتموه))[3].

فالأحداث الصادرة من بني البشر ـ خصوصاً ما كان لها بعدٌ جمعيٌّ عامٌّ ـ باعتبارها تخضع للكوامن النفسية التي تتنوّع بتنوّع الجِبلَّة، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة، تكون ـ في العادة ـ مشتركات بين كلّ الشعوب والأُمم في كلّ زمانٍ ومكانٍ. فاحتاج مَن كان في موقع الطبيب المعالج للنُّفوس أنْ يُطلق خطابات ناجعة لكلّ تلك الشرائح على مرّ العصور.

ولا بأس بالتدليل على ذلك بشاهد في ضمن الأركان التالية:

1 نوع المخاطَب: من ديدن المكابرين على مرّ العصور أنْ يسدُّوا آذانهم بوجه الحقّ والحقيقة، مهما كانت الدلائل عليها بيّنة والشواهد فيها واضحة.

2 المخاطب المباشر: وقد كانت الشريحة المباشرة للخطاب الحسيني تتميّز بهذه المزية، ومع ذلك صدر الخطاب مع علم المتكلّم بأنّ المخاطَب مِمّن ينطبق عليه قوله تعالى: ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ….[4]؛ لأجل أنْ يستفيد من الخطاب المتردّد والجاهل.

3 النموذج للخطاب الحسيني: عندما اصطفّ المعسكران للقتال في كربلاء، خرج بعض أصحاب الإِمام الحسين عليه السلام  واستأذنوه ليكلّموا القوم ويعظوهم، وكان منهم برير بن خضير الهمداني؛ حيث يحدثّنا التاريخ أنَّه قال: ((يا بن رسول الله، أتأذن لي فأخرج إليهم فأكلمهم؟ فأذن له فخرج إليهم، فقال: يا معشر الناس، إِنَّ الله عزّ وجل بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حيل بينه وبين ابنه. فقالوا: يا برير، قد أكثرت الكلام فاكففْ، فوالله، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله))[5].

ومثله ما ورد عن زهير بن القين؛ حيث خرج على فرس له ذنوب شاك في السلاح، فقال: ((يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار! إِنَّ حقاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا نحن أُمة وأنتم أُمة. إِنَّ الله قد ابتلانا وإياكم بذرية محمد صلى الله عليه وآله، لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد. فسبّوه وأثنوا على ابن زياد. فقال لهم: يا عباد الله، إِنَّ ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإنْ كنتم لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فلعمري، إِنَّ يزيد يرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام . فرماه شمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله، ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، وأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم))[6].

وهذا بعينه حصل مع سيّد الشهداء عليه السلام ، فإنّه عندما قال لهم: ((ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها، هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم وابن ابن عمه وابن أوْلى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟! أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عم أبى؟! أوَ لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله مستبشراً لي ولأخي: هذان سيدا شباب الجنة. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمى وانتهاك حرمتي؟! قالوا: ما نعرف شيئاً مما تقول))[7].

4 المخاطَب عبر عمود الزمان: في عصرنا الحاضر، وفي السنوات الأخيرة، وبالتحديد في بلدنا الحبيب لبنان، قد حصل حدثٌ له تداعياته الكبيرة على لبنان والمنطقة، وهو اغتيال رئيس وزرائها، وبدأ الغرب، في المحاولة لتجيير هذا الحدث لصالحهم عن طريق إيجاد فتنةٍ في لبنان يُعرف أوّلها ولا يعرف آخرها، ففبركت مختبراتهم السوداء قراراً اتّهامياً. وقبل صدور هذا القرار الاتهامي وفي أثنائه وبعده، كان الأمين العام لحزب الله يقيم البراهين التي لا تقبل الجدل، الواحد تلو الآخر، على أنَّ إسرائيل وراء هذا العمل، أو لا أقل ينبغي وضعها في لائحة الاتهام، وعلى رأس تلك البراهين الصور المسحية لطائرات التجسُّس الإسرائيلي التي استطاعت المقاومة بتقنية عالية أن تحصل عليها.

وعلى الرغم من وضوح تلك الأدلة والشواهد، وإقامة البراهين القاطعة على بروز الأيادي الخفية لإسرائيل وراء هذا العمل، على الرغم منْ كلّ ذلك نجد مقاماً رفيعاً مِمّن يُسمّى بـ 14 آذار يقول مخاطباً سماحة السيد حسن نصر الله: ((لو خطبت آلاف الخُطب لن نرفع اليد عن المحكمة الدولية والقرار الاتهامي)).

أليس هذا مشابهاً لقول قتلة الحسين عليه السلام  الذي تقدّمت نماذجه بألحان مختلفة؟!

مناهج البحث التاريخي تؤكِّد على خصيصة التجرُّد:

اختلف علماء المناهج في الموضوع الذي يصلح أنْ يكون محوراً للدراسات التاريخية، هل هو مطلق الحدث الذي حصل في الزمن الماضي ـ كما يُفهم مِنْ أكثر الذين تناولوا ـ في كتبهم التاريخية ـ التأريخ لنشأة الكون والأرض، أمثال الطبري ت310 من المؤرخين المسلمين، ومن غيرهم مشى على هذا المنوال المؤرّخ الإنكليزي هربرت جورج ولز Herbet George Wells: 1866ـ 1946؛ حيث بدأ كتابه في موجز تاريخ العالم بدراسة نشأة الكون والأرض، وما ظهر على سطحها من مظاهر الحياة المختلفة، ثمّ تدرّج في عرض تواريخ الأُمم والشعوب والحضارات المختلفة منذ نشأتها حتى العصر الحديث[8]ـ أم أنَّ الموضوع هو الحدث الإنساني الذي تحقّق في الزمن الماضي؛ لتشمل الدراسات التاريخية تمام ما صدر من الإنسان ـ أيّ إنسان ـ كما هو الغالب على أكثر كتب المؤرخين الإسلاميين، أمْ أنَّ الموضوع عبارة عن: الحدث الإنساني المهمّ؛ ليخرج الكثير من الأحداث الإنسانية غير المهمّة عن دائرة البحث التاريخي؟

ولو حاولنا تخطّي ثغرة توسّع البحث التاريخي وتضخّمه بشكلٍ لا حاجة إليه، عن طريق إضافة قيد المهم، لكنَّ ذلك يُكسب التعريف غموضاً؛ لأنّ مفهوم المهم لا يمتلك مفاداً دقيقاً موضوعياً يمكن تقييمه[9]، أمْ أنه غير ذلك[10]…؟

وعلى كلّ تقدير، نلاحظ أنَّ الحدث الواقع في الزمن الماضي أمرٌ ضروريٌّ في بيان محورية البحث التاريخي عند الجميع.

وحينئذٍ؛ يقع التساؤل عن دور الزمن في الدراسات التاريخية، وعلى أساس الجواب عن هذا التساؤل يتضح لنا مدى تأثير الحدث التاريخي على المستقبل، وكيف يتجرّد الحدث التاريخي عن عنصر الزمن.

وإنْ شئت فقل: إِنَّ المعرفة التاريخية حول حدثٍ ما هل تتولّى تجريده عن حاجز الزمان، وتحاول التعرّف عليه كما هو وكما كان يظهر لمَن عاصره، وذلك من خلال جهد علميّ ينتقل من الحاضر إلى الماضي ويلغي المسافة الزمنية القائمة؟ فهل يستهدف البحث التاريخي تحقيق ذلك، أم أنَّ عنصر الزمن يلعب دوراً مؤثراً في استيعاب الحدث التاريخي؟ هل يتّجه الباحث في عملية القراءة نحو الماضي أم الحاضر؟ هل يقع على عاتق الباحث التاريخي إلغاء الحاجز الزمني، أم يتوجّب عليه بلورة المرآة الزمنية وجانب الحكاية والتعبير في عنصر الزمن؟

وفي هذا المجال يوجد تصوّران:

التصوّر الأوّل: هو التصوّر الذي يعتبر أنَّ الزّمن يشكّل حاجزاً بين الحدث والباحث التاريخي الذي يكون بصدد معالجته. فالحدث شيءٌ وقع في الزمان الماضي وتصرّم وانقضى، والباحث الحاضر يواجه الآن فاصلاً يحجزه عنه، وهو الزمن.

ويعتبر فولتير[11] من أنصار هذا التصوّر، حيث ينقل عنه قوله ساخراً: ((إِنَّ التاريخ لونٌ من نبش قبور الأموات))[12]. وهذه الكلمة تتأسس على المفهوم المذكور للحدث التاريخي، وهو مفهوم يرى في الزمن مقبرة لأحداث التاريخ. وعلى هذا المفهوم للحدث التاريخي يستند تصوّر كثير من أولئك الذين يرون أنَّ البحث التاريخي لا يتحلّى بالأهمية.

وعلى ضوء هذا التصوّر؛ سوف يتأطّر الحدث التاريخي بالظرف الزماني الذي حصل فيه، وإنّما الحاجز الذي أُلغي ـ على ضوء هذا التصوّر ـ ليس هو القطعة الزمنية التي صدر فيها الحدث، وإنّما هو الفاصل الزماني بين المبدأ والباحث التاريخي الذي يقع في منتهى العمود الزمني. لكن ثمّة تصور آخر يتباين جوهرياً مع ما ذكر، فالشيء التاريخي في ضوء الفهم الآخر يمثّل ظاهرة اكتسبت تواصلاً وخلوداً في مجرى الزمن.

وتنقسم الأحداث ـ سواء كانت أفكاراً أم ظواهر ـ إلى نوعين: فهي إمّا أنْ تتحرّك في إطار الزمن وتتواصل فتخلد، أو تظلّ حبيسة زمنها فتدفن فيه وتنتهي. والقسم الأوّل هو الحدث التاريخي.

ويمثّل الزمان في هذا التصور كذلك مفهوماً أساسياً، غير أنَّه يعدّ ـ في إطار هذا التصوّر ـ بمثابة إكسير الخلود بالنسبة للحدث الذي يكتسب تاريخيته بفضل ذلك الإكسير، وتقوّم الأمر التاريخي بامتلاك الحدث وجوداً تاريخياً بمعنى الحركة في الزمن.

فالشيء التاريخي بحسب التصوّر الأول أمرٌ احتجز خلف أسوار الماضي، ويحاول الباحث التاريخي إزالة الحاجز الزمني عبر أدوات ومناهج معيّنة، والاقتراب من الحادثة التاريخية كي يراها كما هي، وكلما كان الاقتراب من الحدث ألصق كانت رؤيته أكثر واقعية؛ واستتبع ذلك معرفةً تاريخيّة أدق.

وفي ظلّ هذا التصوّر يقتصر دور المؤرخ على ممارسة تسجيلة للأحداث، لا تنتقل مكانياً بيد أنَّها تتخطّى المسافة الزمنية.

وعليه؛ فالمعرفة التاريخية تعني هنا فهم الماضي ودراسة الزمن المنصرم.

وعلى أساس هذه الرؤية؛ تمّ تعريف الدراسة التاريخية ـ في بعض كتب مناهج البحث ـ بأنّها: ((الدراسة التي تتضمّن مطالعة أحداث الماضي وشرحها واستيعابها، والهدف منها هو التوصُّل إلى تلك النتائج ذات العلاقة بأسباب الأحداث الماضية وانعكاساتها على الحاضر، وبواسطتها يصبح التنبُّوء بالأحداث المستقبلية أمراً ممكناً))[13].

بينما في ضوء التصوّر الثاني للمعرفة التاريخية يمكن اعتماد اتجاه علمي فيما يتصل بالدراسات التاريخية. والمعرفة التاريخية في هذا الاتجاه ليست جهداً يستهدف إلغاء الحاجز الزمني، وليست ذلك فحسب، بل هي على العكس من ذلك؛ فهي محاولة لرؤية الأمر التاريخي في مرآة الزمن.

إِنَّ حركة المؤرّخ تتَّجه نحو نقطة معاكسة تماماً لتلك التي يتَّجه نحوها المؤرّخ في ضوء التصوّر الأول.

وعلى أساس هذا المفهوم للمعرفة التاريخية؛ فإنّنا نواجه في واقع الأمر لوناً من الثورة الكوبرنيكية[14]، تتحوّل فيها الحركة نحو الماضي إلى انتقال في المستقبل. فالدراسة التاريخية هي اكتشاف لحدث أو فكرة تاريخية في تواصلها التاريخي وفي ظلّ آثارها ونتائجها والتحديات التي واجهتها ونظائرها… وبحث عن معطياتها وتواليها، بدلاً عن ملاحقة تاريخها وأسبابها.

وعلى أساس هذا التعريف للبحث التاريخي؛ لا تكون أكثر الدراسات اقتراباً من الحدث التاريخي هي الدراسة الأعمق والأدق بالضرورة، بل كلما تصرّم الزمن وأُتيح للحدث مجال أوسع للحركة في المستقبل؛ توفرت لنا إمكانية أكبر للاستيعاب.

إِنَّ المسافة الزمنية تُتيح إمكانية لقراءة أعمق وملاحظة لأبعاد متوارية في الموضوع التاريخي.

وفي هذا المجال ينقل جلال آل أحمد عن أستاذه في تاريخ الحضارة عباس إقبال الأشتياني 1896ـ 1956 قوله: ((لا يُتاح لأيّ شخص أو كتاب أو أثر أنْ يقيّم الحدث التاريخي أيّ حدث كان ما لم يمرّ عليه قرنٌ من الزمن))[15].

وعلى هذا الأساس؛ تكون الدراسة التاريخية على غرار الدراسة التفسيرية لا نهاية لها؛ ضرورة أنَّ تداعيات المستقبل[16] لها دورٌ في فهم الحدث التاريخي من زواياه المختلفة.

إذا تبيّن لنا ذلك؛ أمكن القول: إِنَّ دراسة حركة الإِمام الحسين عليه السلام  ـ التي تشكّل خطاباته محوراً رئيسياً في هذه الحركة ـ تعني وصف هوية هذا الحدث العظيم وأبعادها، وتعليلها على أساس مرآة الزمن وفي ظلّ أحداث المستقبل.

فالدراسة التاريخية: استيعاب الماضي في إطار نتائجه الحاضرة؛ ومن هذا المنطلق أكّدنا على الخصوصية الأُولى التي مرجعها إلى أنَّ الخطابات العاشورائية ليست خطابات انقرضت واختبأت خلف جدار الزمن، بل هي حيّة متجدّدة ما دامت الشمس تشرق على صراع بين الحقّ والباطل.

الخصيصة الثانية: تزاوج العاطفة والعقل

هناك سؤالٌ أُريد أنْ ابتدئ به البحث عن هذه الخصوصية، وهذا السؤال يبدو لي خطيراً ومهمّاً، بل هو من أخطر الأسئلة التي تواجه النُّخب وأصحاب القرارات، ويمكن صياغته بالشكل التالي:

إذا أردنا أنْ نعلو بالإنسان من حضيض المادة إلى سماء المعنى، فمِمّا لا شكّ فيه أنَّنا بحاجةٍ إلى تطويره، ولكنّ السؤال أنَّ ذلك التطوير الموصل إلى السُّمو هل يقتصر على تطوير العقول، أم أنَّه بحاجةٍ إلى تطوير العواطف والميول؟ وأيّ التطوّرين أصعب؟ وأيّهما أسهل وأقرب[17]؟

وكلّ جواب نزعمه سوف يقتضي سلوكاً معيّنا، فإذا زعمت مؤسسات الدولة مثلاً أنَّ التطوّر العقلي هو الأهم؛ فسوف تكون النتيجة هو صرف العناية بالدرجة الأُولى إلى المدارس والجامعات والمعاهد على اختلاف أنواعها، وهذا ما نراه بالفعل في جميع أنحاء العالم.

أمّا إذا كان التطوّر العاطفي هو الأهمّ؛ فيحقّ لنا أنْ نتساءل: ماذا قدّمت الدول ومؤسسات القرار في سبيل تطوير الإنسان عاطفياً؟

ولنضرب لذلك مثالاً واضحاً في داخل حوزاتنا الدينية؛ حيث نلاحظ أنَّ الجواب عن ذلك السؤال ـ بحسب ما نلاحظه في مقام العمل ـ هو أنَّ التطوّر العقلي هو الأهم، بل تكاد تنعدم أدنى الأهمية للتطوّر العاطفي، فنرى الاهتمام الكبير بتأسيس المدارس الدينية، وتأليف الكتب الدراسية ونشرها، وتربية الأساتذة الأكفّاء من ناحية الأُسلوب والمادة العلمية، وغير ذلك من الممارسات التي تخدم التطوّر العقلي والنبوغ الفكري.

وفي مقابل ذلك، نرى إغفالاً واضحاً للتطور العاطفي وما يخدم الرّوح، فكلّ أيام الأسبوع صباحها ومساؤها، تكون في خدمة التطور العقلي، وتبقى دقائق معدودة في يوم الأربعاء ـ لو وجدت ـ قد خصّصت لخدمة التطوّر العاطفي، وهي مضافاً إلى عدم كفايتها في حدّ ذاتها تأتي في وقت قد استنزف طالب العلم كلّ قدراته التوجّهية.

والحال أنَّ هذا العلم الجاف الذي ندرسه لا يولّد إنساناً بما للكلمة من معنى، بل قد يكون حجاباً يمنع صاحبه عن الوصول إلى مصافّ الإنسانية، ويتنزّل به إلى حضيض البهيمية، وفي هذا المجال يقول السيِّد الإمام الخميني+ في بعض تعليقاته على مصباح الأنس: ((فالفكر حجابٌ، والعلم هو الحجاب الأكبر))[18].

ولنعتبر هذا الأمر في مثال عمليّ مُشاهد:

وزارة الداخلية أو المواصلات في كلّ بلدٍ يحترم نفسه تفرض شروطاً صعبة على منح رخصة القيادة، وبعض هذه الشروط يرتبط بسلامة الإنسان، فلا بدّ له من أنْ يأتي بفحوصات طبية ترتبط بحاستي النظر والسمع وما شابه ذلك، وبعضها يرتبط بالمعرفة النظرية والعملية لقيادة السيارات، وتخضعه لامتحان صعبٍ في ذلك، فإذا نجح فيه؛ تمنحه الرخصة المؤقتة ولمدّة سنة وعلى طرقٍ معيّنة، ثمّ بعد ذلك إنْ مرّت السنة من دون مخالفات، يُعطى رخصة إلى مدّة زمنيةٍ أطول، وعندما يصل الشخص إلى سنيّ ضعف الحواس، تكون قد انتهت المدّة؛ ليكون التجديد له مشروطاً بفحصٍ يجريه بشكلٍ دوري.

هذا، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي:

هل نجحت هذه الإجراءات المشددة لوحدها في وصول الوزارة المعنية إلى أهدافها من ذلك؟

فلو منحت الرخصة لشخصٍ كان من أوائل الناجحين، ومرّ هذا الشخص نفسه في مكان لا يوجد فيه كاميرات مراقبة ولا شرطة مرور، فهل ترى أنَّ علمه العملي والنظري الذي نجح فيهما بحسب الفرض يكفيه للارتداع عن المخالفة؟

ولو أنَّه مرّ في طريق وكان هناك رجلٌ أعمى يريد أنْ يعبر الطريق، فهل تراه يقف في انتظاره، أو يخفّف من سرعته، لمجرّد أنَّه قد درس قوانين السير عند أفضل المدرسين، وتدرّب على قيادة السيارات في أحدث المؤسسات؟

معلومٌ أنَّ الجواب لن يكون بالإثبات!!!

فما هو السّرُّ في ذلك يا ترى؟

ليس ذلك إِلاَّ لخوائه العاطفي والأخلاقي، وأنّه لو بذلت الدولة ومؤسساتها المرتبطة بالسير جهداً موازياً للجهد الذي تبذله في مجال التطور العقلي، لو بذلت هذا الجهد في تطويره أخلاقياً وعاطفياً؛ لأمكن أنْ نجيب بالإثبات عن السؤال المتقدّم. فشهادة القيادة لا تكفي، بل لا بدّ من شهادةٍ في الأخلاق وحسن السلوك وصحو الضمير.

وهكذا الحال في الطبيب والمهندس، وغير ذلك من المهن والحرف التي تعتمد على التطوير العقلي والعلمي من جهةٍ، وتكون بحاجةٍ إلى بُعدٍ أخلاقيٍّ في مقام الممارسة من جهةٍ أُخرى.

والذي نلاحظه أنَّنا نضع أولادنا في المدارس وهم لم يصلوا إلى سنّ الخامسة بعدُ، وتضع الدولة وسائر المؤسسات مع الأهل تمام الإمكانات التي تصبّ في تطوّرهم العلمي والعقلي، وتنتظر اثنتي عشرة سنة ليحصل الولد على الشهادة الثانوية، وتنتظره إحدى عشر سنة أُخرى على الأقلّ ليخرج حاملاً شهادة اختصاصٍ في فرع من فروع الطبّ. وهذا يعني أنَّنا انتظرناه أكثر من عقدين من الزمن، لا لمجرّد أنْ يكون حاملاً لشهادةٍ ومجموعةٍ كبيرةٍ من المعلومات؛ بل لكي يكون عنصراً صالحاً ومفيداً، وهذا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى سلوك مناسب، وللأسف لا نعطيه شيئاً مرتبطاً بذلك في تلك السنوات الثلاث والعشرين.

نماذج التزاوج بين التطوير العقلي والعاطفي في الخطاب العاشورائي:

وعلى أساس ما تقدّم؛ نلاحظ أنَّ الإِمام الحسين عليه السلام  في تمام أبعاد مسيرته قد زاوج في خطاباته بين التطوّر العقلي والتطوّر العاطفي، ومع قطع النّظر عن الخطاب العاشورائي نرى أنَّ ذلك قد انعكس بوضوحٍ على جبل عرفة، في دعائه العظيم الذي رواه بشرٌ وبشيرٌ ابنا غالب الأسدي؛ حيث تراه في عين إثباته لوجود الصانع بأفضل البراهين يصيغه بصياغةٍ تحرّك الروح، فيشعر سامعه بالخشوع؛ ليظهر أثره على العين، فتذرف الدموع السواكب.

فهو القائل: ((إِلَهِي، تَرَدُّدِي فِي الآثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزَارِ، فَاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ، مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً))[19].

فانظر ـ بعين البصيرة ـ إلى هذا الكلام الذي يُثبت لك وجود الصانع ببرهان اللمّ، ويسبكه في عبارةٍ تجعل التالي لها يعيش حالة الإحساس بالرقيب في كلّ حركاته وسكناته، ذلك الرقيب الذي لا يخاف منه لقسوته؛ بل لكونه هو المحبوب الأوحد والمعشوق الأمجد.

وهذه العقلانية في قالب التهذيب نراها بوضوح في جميع خطاباته العاشورائية منذ بدء الثورة في المدينة ومكة إلى سقوطه مشحطاً بدمه في كربلاء.

ونكتفي في هذه العجالة بذكر نماذج ثلاثة:

النموذج الأوّل:

عَن ابْنِ طَاووس، قَالَ: ((وَحَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مَنْ أَشَرْتُ إِلَيْهِ، بِإِسْنَادِهِمْ إلى عُمَرَ النَّسَّابَةِ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ، فِيمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِ الشَّافِي فِي النَّسَبِ، بِإِسْنَادِهِ إلى جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عُمَرَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام  يُحَدِّثُ أَخْوَالِي آلَ عَقِيلٍ، قَالَ: لَمَّا امْتَنَعَ أَخِيَ الحُسَيْنُ عليه السلام  عَنِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ بِالمَدِينَةِ دَخَلْتُ‏ عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ خَالِياً، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله، حَدَّثَنِي أَخُوكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام . ثُمَّ سَبَقَنِي الدَّمْعَةُ وَعَلا شَهِيقِي، فَضَمَّنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَّثَكَ أَنِّي مَقْتُولٌ؟ فَقُلْتُ: حُوْشيْتَ يَا بْنَ رَسُولِ الله. فَقَالَ: سَأَلْتُكَ بِحَقِّ أَبِيكَ بِقَتْلِي خَبَّرَكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَلَوْلا نَاوَلْتَ وَبَايَعْتَ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ الله عليهما السلام  أَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ وَقَتْلِي، وَأَنَّ تُرْبَتِي تَكُونُ بِقُرْبِ تُرْبَتِهِ، فَتَظُنُّ أَنَّكَ عَلِمْتَ مَا لَمْ أَعْلَمْهُ؟! وَأَنَّهُ لاَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ مِنْ نَفْسِي أَبَداً، وَلَتَلْقَيَنَّ فَاطِمَةُ أَبَاهَا شَاكِيَةً مَا لَقِيَتْ ذُرِّيَّتُهَا مِنْ أُمَّتِهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ آذَاهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا))[20].

فهذا الحسين عليه السلام  في المقطع الأخير من كلامه مع أخيه عمر عندما طلب منه المبايعة إشفاقاً عليه، قد بيّن  عليه السلام  له أنَّ ذلك غير ممكن في ضمن برهانٍ مضمرٍ في قالبٍ عاطفيّ. فأفاد: أنَّ المبايعة ليزيد منْ مثله إعطاء للدنية وهي المقدمة المذكورة صراحةً في الخبر، وإعطاء الدنية لا يرضاه الله لأوليائه وهي المقدمة المطوية في القياس؛ لكونه من الأقيسة المضمرة كما لا يخفى. فينتج ذلك: أنَّ المبايعة ليزيد مِمّا لا يرضاه الله لأوليائه.

ثمّ لم يكتفِ بهذا البرهان، فضمّنه ما يشعر بمقامه من جهةٍ؛ لكونه ابنَ فاطمة عليها السلام ، وهي مَنْ نعلَم مِنْ كونها قد فُطِم الخلق عن معرفتها[21].

وأتبعه بما يُحرّك العاطفة، مع كونه في الوقت نفسه يمكن إرجاعه إلى قياس برهاني، فيقال ـ على وجه الاختصار ـ: ما يترتّب من فعلٍ على ترك الإِمام الحسين عليه السلام  للبيعة فيه أذيةٌ لأُمّه عليها السلام ، وأذيتها أذيّةٌ لرسول الله عليهما السلام ، وأذيته أذيّةٌ للجبار تعالى. قال رسول الله عليهما السلام : ((إِنَّما فاطمةٌ بضعةٌ منِّي؛ يؤذيني ما آذاها))[22]، وبديهيٌّ أنَّ أذية الرسول أذيّةٌ للمرسِل.

ويمكن الاستغناء عن القضية المتوسطة بما رواه الصدوق رحمه الله : قَالَ ((حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ العَبَّاسِ بْنِ الوَلِيدِ البَزَّازُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ بِالكُوفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي عَلِيُّ‏ بْنُ العَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ سَالِمٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام ، عَنْ رَسُولِ الله عليهما السلام  أَنَّهُ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَيَرْضَى لِرِضَاكِ. قَالَ: فَجَاءَ صَنْدَلٌ فَقَالَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهما السلام : يَا أَبَا عَبْدِ الله، إِنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ يَجِيئُونَّا عَنْكَ بِأَحَادِيثَ مُنْكَرَةٍ! فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ عليه السلام : وَمَا ذَاكَ يَا صَنْدَلُ؟ قَالَ: جَاءَنَا عَنْكَ أَنَّكَ حَدَّثْتَهُمْ أَنَّ الله يَغْضَبُ لِغَضَبِ فَاطِمَةَ وَيَرْضَى لِرِضَاهَا! قَالَ: فَقَالَ جَعْفَرٌ عليه السلام : يَا صَنْدَلُ، أَلَسْتُمْ رَوَيْتُمْ فِيمَا تَرْوُونَ أنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَغْضَبُ لِغَضَبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ فَاطِمَةُ عليها السلام  مُؤْمِنَةً يَغْضَبُ الله لِغَضَبِهَا وَيَرْضَى لِرِضَاهَا؟! قَالَ: فَقَالَ: الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ))[23].

النموذج الثاني:

ما ورد في تسلية المجالس وغيره: ((ثُمَّ أَرْسَلَ الحُسَيْنُ عليه السلام  إلى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ لَعَنَهُ الله: أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ، فَالقَنِي اللَّيْلَةَ بَيْنَ عَسْكَرِي وَعَسْكَرِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ سَعْدٍ فِي عِشْرِينَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ الحُسَيْنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا التَقَيَا أَمَرَ الحُسَيْنُ عليه السلام  أَصْحَابَهُ؛ فَتَنَحَّوْا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ أَخُوهُ العَبَّاسُ وَابْنُهُ عَلِيٌّ الأَكْبَرُ، وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَصْحَابَهُ؛ فَتَنَحَّوْا عَنْهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ ابْنُهُ حَفْصٌ وَغُلامٌ لَهُ. فَقَالَ لَهُ الحُسَيْنُ عليه السلام : وَيْلَكَ يَا بْنَ سَعْدٍ! أَمَا تَتَّقِي الله الذي إِلَيْهِ مَعَادُكَ؟! أَتُقَاتِلُنِي وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ؟! ذَرْ هَؤُلاءِ القَوْمَ وَكُنْ مَعِي؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ إلى الله تَعَالَى. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَخَافُ أَنْ يُهْدَمَ دَارِي. فَقَالَ الحُسَيْنُ عليه السلام : أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ ضَيْعَتِي. فَقَالَ الحُسَيْنُ عليه السلام : أَنَا أُخْلِفُ عَلَيْكَ خَيْراً مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالحِجَازِ. فَقَالَ: لِي عِيَالٌ وَأَخَافُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ إلى شيء، فَانْصَرَفَ عَنْهُ الحُسَيْنُ عليه السلام  وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَكَ؟! ذَبَحَكَ الله عَلَى فِرَاشِكَ عَاجِلاً، وَلا غَفَرَ لَكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَوَالله، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ العِرَاقِ إِلاّ يَسِيراً. فَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فِي الشَّعِيرِ كِفَايَةٌ عَنِ البُرِّ؛ مُسْتَهْزِئاً بِذَلِكَ القَوْل‏))[24].

فالحسين عليه السلام  في هذا النّصِّ ـ على الرّغم من معرفته بأنّ عمر بن سعد قد ختم الله على قلبه، ولا تنفعه حجّة ولا موعظة، لكنْ لمّا كان الخطاب الحسيني غير متقيّدٍ بزمانٍ ولا مكان، كما تقدّم في الخصوصية الأُولى، فهو بالتالي على الرغم من كون فائدته المباشرة تأكيد الحجّة، يكون خطاباً سيّالاً لكلّ مَن ألقى السمع وهو شهيد ـ زاوج بين العاطفة والعقل.

فهو يعرف أنَّ البواعث المحرّكة لمثل هذا الرجل هي البواعث المادية؛ فلذا أراد تغطية هذا البُعد العاطفي عنده، فوعده بتأمينها عن طريق البيت والضيعة، كما أنَّه لمّا لم ينفع ذلك معه انتقل إلى البعد العاطفي الأُخروي.

وكانت تغطية البُعد العقلي قد سبقت ذلك عن طريق تذكيره بمقامه في هذه الأُمّة بقوله: ((أَتُقَاتِلُنِي وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ؟!))، فإنَّه صغرى في قياسٍ مضمرٍ، كما تقدّم في النموذج السابق.

النموذج الثالث:

قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليهما السلام : ((لَمَّا اشْتَدَّ الأَمْرُ بِالحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليهما السلام  نَظَرَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا هُوَ بِخِلافِهِمْ؛ لأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الأَمْرُ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، وَوَجَبَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَانَ الحُسَيْنُ عليه السلام  وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لا يُبَالِي بِالمَوْتِ!! فَقَالَ‏ لَهُمُ الحُسَيْنُ عليه السلام : صَبْراً بَنِي الكِرَامِ فَمَا المَوْتُ إِلاَّ قَنْطَرَةٌ تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ البُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إلى الجِنَانِ الوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إلى قَصْرٍ؟! وَمَا هُوَ لأَعْدَائِكُمْ إِلاَّ كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ إلى سِجْنٍ وَعَذَابٍ. إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله: أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ، وَالمَوْتُ جِسْرُ هَؤُلاءِ إلى جَنَّاتِهِمْ، وَجِسْرُ هَؤُلاءِ إلى جَحِيمِهِمْ. مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ))[25].

والتطوير العاطفي والأخلاقي في هذا النّص في غاية الوضوح من خلال خطابٍ يشدّ الروح قبل العقل.

وهذا التزاوج بين التطوّر العقلي والعاطفي كثير في كلمات أهل بيته عليهم السلام  وأصحابه من خلال مواقفهم المتعددة، ولكن فيما قدّمناه كفاية بعد وضوح الفكرة.

وفي غيره مِمّا يرتبط بحادثة كربلاء، ولكنّه صادر على لسان سائر الأئمّة كثير أيضاً، ومن الموارد الواضحة في ذلك زيارة عاشوراء المنتسبة إلى مولانا صاحب العصر والزمان عليه السلام ؛ حيث يظهر فيها بوضوح سبك الفكر في قالب العاطفة وإطارها، وليس ذلك إِلاَّ لأنّ جفاف الفكر لا يؤثّر إِلاَّ مع ليونة العاطفة.

ولنتأمّل في الفقرات التالية ليتضح لنا حقيقة ما أروم إليه:

((السَّلامُ عَلَى الحُسَيْنِ الذي سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِمُهْجَتِهِ… السَّلامُ عَلَى مَنْ أَطَاعَ الله فِي سِرِّهِ وَعَلانِيَتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنْ جُعِلَ الشِّفَاءُ فِي تُرْبَتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ الإِجَابَةُ تَحْتَ قُبَّتِهِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ الأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ… السَّلامُ عَلَى مَنْ أُرِيقَ بِالظُّلْمِ دَمُهُ، السَّلامُ عَلَى المُغَسَّلِ بِدَمِ الجِرَاحِ، السَّلامُ عَلَى المُجَرَّعِ بِكَاسَاتِ الرِّمَاحِ، السَّلامُ عَلَى المُضَامِ المُسْتَبَاحِ، السَّلامُ عَلَى المَهْجُورِ فِي الوَرَى، السَّلامُ عَلَى مَنْ تَوَلَّى دَفْنَهُ أَهْلُ القُرَى، السَّلامُ عَلَى المَقْطُوعِ الوَتِينِ، السَّلامُ عَلَى المُحَامِي بِلا مُعِينٍ))[26].

فها هو عليه الصلاة والسلام يطوّع أجمل العبارات العاطفية؛ لبيان فضله ـ من جهةٍ ـ الذي هو مقدّمة لكبرى مطوية، وهي: أنَّ مَن كان كذلك لا يجوز قتله وسفك دمه، ثمّ يرتّب على ذلك المظلومية بأشدّ الصور حزناً ولهفةً.

ثمّ يتابع في ركوب مركب البلاغة، مزاوجاً بين التأثير العاطفي والإقناع العقلي، فيقول:

((سَلامَ مَنْ لَوْ كَانَ مَعَكَ بِالطُّفُوفِ لَوَقَاكَ بِنَفْسِهِ حَدَّ السُّيُوفِ، وَبَذَلَ حُشَاشَتَهُ دُونَكَ لِلْحُتُوفِ، وَجَاهَدَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْكَ، وَفَدَاكَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، وَمَالِهِ وَوُلْدِهِ، وَرُوحُهُ لِرُوحِكَ فِدَاءٌ… فَلَئِنْ أَخَّرَتْنِي الدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ نَصْرِكَ المَقْدُورُ، وَلَمْ أَكُنْ لِمَنْ حَارَبَكَ مُحَارِباً، وَلِمَنْ نَصَبَ لَكَ العَدَاوَةَ مُنَاصِباً، فَلأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بَدَلَ الدُّمُوعِ دَماً؛ حَسْرَةً عَلَيْكَ وَتَأَسُّفاً عَلَى مَا دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلَوْعَةِ المُصَابِ وَغُصَّةِ الاكْتِيَابِ)).

والعبارة تفيض براعةً، فتنطق فيما رمناه، بلا حاجةٍ إلى تكلّف وتأويل.

السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام …

سماحة العلامة الشيخ معين دقيق العاملي/مؤسسة وارث الأنبياء

————————-

المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

[1] الصَّدوق، مُحَمَّد بن علي، علل الشّرائع: ج2، ص328، الحديث2.

[2] المصدر السابق: الحديث3.

[3] الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي: ج2، ص460.

[4] النمل: آية14.

[5] الصَّدوق، مُحَمَّد بن عليّ، الأمالي: ص222، المجلس30 (مقتل الإِمام الحسين عليه السلام ).

[6] الطبري، مُحَمَّد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص324.

[7] ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان: ص37

[8] راجع: عثمان، حسن، منهج البحث التاريخي: ص11.

[9] انظر: قراملكى، أحد فرامرز، روش شناسى مطالعات دينى: ص266

[10] الأوْلى: أنْ يجعل الموضوع هو الحدث الصادر في الزمن الماضي، والذي له تداعياته على المستقبل.

[11] فرانسوا ماري أرويه (François-Marie Arouet) المعروف باسم فولتير (بالفرنسية: Voltaire) من مواليد (21 نوفمبر 1694) ووفيات (30 مايو 1778)، فولتير هو اسمه المستعار. كاتب فرنسي عاش في عصر التنوير، وهو أيضاً كاتب وفيلسوف ذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الظريفة، ودفاعه عن الحريات المدنية، خاصة حرية العقيدة.

[12] انظر: قراملكى، أحد فرامرز، روش شناسى مطالعات دينى: ص268.

[13] اُنظر: خاكى، غلام رضا، روش تحقيق در مديريت: ص103.

[14] نسبةً إِلَى العالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس الَّذِي تبنّى فكرة وجود الشمس ـ وليست الأرض ـ كجسم ثابت في مركز المجموعة الشمسية. ولمّا كانت هذه النظرية تعدُّ ثورةً تغييرية في علم الفلك وما يرتبط به، أُطلقت الثورة الكوبرنيكية على كلّ اكتشافٍ أو فكرةٍ تؤدّي إلى تغيير جذريٍّ في مجالها.

[15] آل أحمد، جلال، سركهٔ نقد يا حلواى تاريخ: ص11.

[16] نعني بالمستقبل: ما يكون كذلك بالنسبة لوقت صدور الحدث التاريخي، وإنْ كان بالنسبة للباحث قد يكون ماضياً.

[17] هناك مقالة للأديب السوري الراحل الأستاذ حافظ الجمالي تحت عنوان: (التطوّر العقلي والتطوّر العاطفي) أخذت هذا السؤال منها. انظر: مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة والإرشاد السوري، العدد الحادي عشر، كانون الثاني 1963م.

[18] الفناري، محمد بن حمزة، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود: 181، تصحيح وتقديم محمد خواجوي، مع تعليقات لمجموعة من العلماء.

[19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج95، ص255.

[20] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص19.

[21] إشارة إِلى ما ورد في الخبر عن الإِمام الصادق عليه السلام : »َإِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ؛ لأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا»، اُنظر: تفسير فرات الكوفي: ص581.

[22] النّيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج7، ص141.

[23] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص383.

[24] الحسيني الموسوي، محمد بن أبي طالب، تسلية المُجالس وزينة المَجالس: ج2، ص264.

[25] الصدوق، محمد بن علي، معاني الأخبار: ص288.

[26] المشهدي، محمد بن جعفر، المزار: ص497.

مقالات ذات صلة