شفقنا العراق-ثمة ضرورة تبلورت في مجالنا العربي والإسلامي من جراء أحداث وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر وحرب أفغانستان، الا وهي ضرورة الانطلاق الجاد في بناء ثقافتنا من جديد على ضوء معطيات الراهن وثوابت الثقافة التي صاغت مسارات واقعنا المجيد.
ولكن هذه الانطلاقة لا تستهدف تبرير ما جرى، أو تأكيد حقيقة ان هناك ظروفاً موضوعية وسياسية قادت الأمور الى ما جرى من احداث وفظائع. وإنما هي انطلاقة تجتهد في تجسير الفجوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين حركة الواقع بتعقيداته وتشابكاته وحقائق ثقافتنا التي لا تقبل التأويل والتحوير.
وتنبع أهمية العمل على إعادة بناء ثقافتنا من النقاط التالية:
1- إننا كأمة ومجتمعات وأوطان، نتعرض لزخم متدفق من الإنتاج الثقافي والإعلامي الغريب الذي يتجه الى تشويه صورتنا وتحميلنا كأمة وعقيدة مسؤولية ما جرى من أحداث.
فالكثير من عناصر الثقافة ومواد الإعلام التي أنتجت بعد الحادي عشر من سبتمبر، تدفع الأمور باتجاه تحميلنا مسؤولية تلك الأحداث. وان الخيار المطروح أمامنا لقبولنا في حركة العصر والنادي الحضاري العالمي، هو التخلي عن الكثير من القيم التي فهمها بعضنا بشكل خاطئ ومغلوط أو تمت قراءتها من قبل دوائر الغرب الثقافية والإعلامية بشكل ملتبس وغامض، مما أدخل واقعنا في دوامة العمل على تبرئة عقيدتنا مما جرى. وان ما جرى هو وليد تطورات سياسية إقليمية ودولية، هيأت الأرضية السياسية للانطلاق في مشروعات عنيفة ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى كل حال فإننا نود القول في هذا الصدد: ان ما جرى ادخلنا في واقع جديد وتحديات حضارية بعناوين ويافطات حديثة، وان كل هذا يدفعنا الى ان نستخرج من معادن ثقافتنا الغنية عناصر حيويتها ونطورها حسب حاجات واقعنا وشعوبنا، ثم نعيد صياغتها وننتجها بشتى ألوان الإنتاج مقروءا ومسموعا ومرئيا.
2- كل يوم نعيش تحدياً حضارياً جديداً، ونواجه احداثا ووقائع لا نعرف احكامها ومنهج مواجهتها، حتى جعل الكثيرين منا يعيشون التردد والغبش في الرؤية تجاه كل ما جرى من احداث وتطورات.
ومن هنا ومن اجل مواجهة الثقافة الغربية التي تريد وتسعى ان تحملنا كأمة ومستقبل مسؤولية ما جرى، ومن أجل مواجهة المشاكل اليومية العالقة التي زادتنا تردداً وضياعاً والتباساً، فإن علينا إعادة بناء ثقافتنا وتحرير وعينا من القوالب الفكرية والثقافية التي تريد مؤسسات الإعلام والثقافة الغربية إدخالنا فيها، وجعل أولوياتها هي أولوياتنا، واجندتها هي اجندتنا، ومن المشاكل اليومية التي اذا فقدنا البوصلة تزيدنا ضياعا وغبشا وبعداً عن اولوياتنا الصحيحة.
فالأمة حين تفقد شخصيتها، فليس بينها وبين نهايتها الا خطوة واحدة.. إذ الإنسان يعمل من اجل ذاته وبقواه الذاتية، وحين يفقد التحسس بذاته أو الثقة بها فبماذا ولماذا العمل.. كذلك الأمة تعمل – كأمة – من أجل شخصيتها، وبما لديها من طاقات مادية وروحية، إذا ضاعت الشخصية فلماذا وبماذا العمل. إن شخصية الأمة هي روحها الجماعية التي يستوحي منها كل فرد من أبنائها العزيمة والأمل. حين يعشق الفلاح ارضه التي يحرثها ويداعبها حتى تخضر وتنتج لا يحب التراب، كمادة جامدة، بل كرمز للأمة التي عاشوا ولا يزالون عليها.
وحين يتعامل العامل مع آلات مصنعه، وينسجم معها كأنه في جوقة موسيقية، فليس يتعامل مع الحديد. إنما مع البشر الذين سوف ينتفعون بها.
إن حبلا يشد هؤلاء وأمثالهم الى بعضهم وروحا واحدة تجمع قلوبهم وتضيئها بقنديل الأمل. ولكن إذا ضاعت شخصية الأمة ولم يعد يشعر أبناؤها بالروح الواحدة التي تجمعها فإن كل واحد سيتخذ طريقاً مختلفة، وسيشعر الجميع بالضعف والعجز والهزيمة.
ومن الطبيعي القول: إنه من دون الثقافة الواحدة ذات القيم الإنسانية والحضارية السامية والثابتة التي يؤمن بها الجميع إيماناً راسخاً يبعثهم على العطاء من اجلها والتضحية لها بكل شيء يسقط الجدار المعنوي لبناء الأمة.
ومن دون الهدف، ذو التجربة التاريخية، الذي يكون نقطة ارتكاز لنشاطات وحركة الأمة، ينهار الجدار المادي لبناء الأمة.
وإن بوابة كل ذلك او بالأحرى ان شرط القبض على كل ذلك (الثقافة الواحدة والهدف الواضح)، هو تحرير وعينا العربي المعاصر من كل الأوهام والأغلال التي تكبل تفكيرنا وتحرف أولوياتنا وتجعلنا نعيش الغبش في كل شيء.
إننا كأمة نتعرض اليوم لتهديد حقيقي بضياع شخصيتنا ولا سبيل أمامنا الا تحرير وعينا من كل الرواسب التي تحول دون انطلاقتنا الحضارية والإنسانية.
ان ما جرى من أحداث ومآس ليس نهاية التاريخ، وانما هو لحظة تاريخية تحملنا مسؤولية العمل على بناء ثقافتنا حتى يتسنى لنا جميعا المشاركة الفعالة في حضارة العصر وحتى نتمكن من خلال وعينا وتقدمنا الحضاري، ان نجابه كل التصورات التي تحاول أن تلصق صفة التخلف والتأخر بالإسلام.
إن مسؤوليتنا تتجسد في الهروب إلى الأمام، عبر تحرير وعينا وبناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على أسس اكثر إنسانية وحضارية، ولابد ان ندرك جميعا ان الزيادة في الدين حرام، لأنها نوع من الغلو الممنوع. وإن هذا الأخير كان هو المسؤول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس على الدين. ولا يخفى علينا جميعا انه في العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لانتهاء سيطرة الكنيسة وتحول الناس الى اللائكية والإلحاد.
وحين تراجعت الكنيسة تحت ضغط الظروف عن اضافاتها اللامعقولة الى الدين عاد العالم الغربي الى الكنيسة. من هنا غضب الباري عز وجل على طائفة من الناس لأنهم حرموا ما أحل الله لهم وقال {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
من هنا فإننا نقول: إن فتح أبواب التطور أمام الأمة، يتطلب تحرير وعينا وبناء ثقافتنا على ضوء معطيات الإنسان والحضارة. وهذا يقودنا الى التأكيد على النقاط التالية:
1- أصالة القيم: غني عن القول، انه كلما ابتعدنا عن القيم والمبادئ والمثل الإنسانية والحضارية، اضطرب واقعنا وبدأنا نعيش في دائرة الفوضى والعدوان واللاإبالية، لهذا فإننا لا يمكن أن نبني ثقافتنا ونحرر وعينا من الأوهام والأغلال الداخلية والخارجية بدون الاستناد الى أصالة قيمنا ومبادئنا. وما أحوجنا اليوم كأفراد وأمة الى تلك القيم التي تعلي من شأن الانسان وكرامته وتحفزنا على التعاون والتسامح والتآخي على قاعدة المشترك الديني والإنساني. فالناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق. وان جهدنا اليومي المطلوب، ينبغي ان يتجه صوب تعميق هذه القيم ومتطلباتها في فضائنا الاجتماعي. فكلما نقترب من الالتزام بمقتضيات هذه القيم، تتوطد أسس الأمن والاستقرار في محيطنا ومجالنا الاجتماعي. ولا تحرير لوعينا الا برافعة هذه القيم، التي تطرد من عقولنا وواقعنا كل حالات الأثرة والأنانية والتصنيف والتهميش والانخراط الأبله في مشروعات التفتيت والحروب المجانية.
والفقهاء والعلماء والمثقفون في مجالنا العربي والإسلامي، يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الإطار، إذ ان عطاءهم الفكري وجهدهم الإصلاحي من الأهمية بمكان ان يتوجه صوب تعميق حقائق حقوق الإنسان وخيار الحرية والديمقراطية في الأمة.
2- ضرورة الاستناد على حقائق القوة والتقدم، وترك ونبذ الشعارات التي نتعامل معها وكأنها البديل الجوهري عن العمل والبناء. فالتقدم ليس وليد الشعار المجرد، بل هو نتيجة العمل المستمر الذي يتجه نحو صناعة الحقائق الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تساهم في حل العديد من المشكلات، وتستوعب جملة من الطاقات والكفاءات، وتؤكد لنا جميعا ان لا خيار امامنا الا خيار البناء والعمل من اجل ترجمة طموحاتنا وتطلعاتنا الى حقائق ووقائع على الأرض.
3- التفاعل مع التجارب الإنسانية الحديثة، ورفض حالات الانكفاء والانعزال والتهميش. فالعلم الحديث، خلاصة تجارب، وعلينا ان ننفتح عليها، ولكن قبل ذلك علينا ان نميز بين قشور التجارب ولبابها، بين المغزى الحقيقي للتجربة، وبين الإطار الذي وضع فيه هذا المغزى. والأمة التي تنعزل عن تجارب غيرها، تتأخر، ولا تمتلك القدرة على استيعاب تطورات ومكاسب الآخرين.
وجماع القول: إن التطورات السياسية التي تجري اليوم في المنطقة، تتطلب منا العمل على تحرير وعينا من أوهام الاستنساخ الحرفي وأسباب العطالة والاستقالة عن الفعل التاريخي، ونعمل جميعا على تأسيس وعي معاصر، يأخذ في اعتباره ان القبض على المستقبل، لا يأتي الا ببناء القوة الحضارية، وصنع حقائق التقدم والتطور في فضائنا العربي والإسلامي.
محمد محفوظ/جريدة الرياض
————————–
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–