شفقنا العراق-السجود من مصاديق العبادة بل هو المصداق الطبيعي لها بمعنى ان انطباق عنوان غاية التذلل عليه لا يتبع الاعتبار وقد دلت الايات على حرمة العبادة لغيره تعالى بل ان حرمتها واضحة لدى جميع الموحدين.
ولكن ربما يناقش فيه بما ورد من سجود يعقوب واولاده ليوسف عليهما السلام وسجود الملائكة لآدم عليه السلام. وهناك روايات ضعيفة وردت في توجيه ذلك:
منها ما في الوسائل عن التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لم يكن سجودهم يعني الملائكة لآدم إنّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزّ وجلّ وكان بذلك معظّماً مبجّلاً ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه لله..)
وعن تفسير علي بن ابراهيم عن يحيى بن أكثم (أنّ موسى بن محمّد سئل عن مسائل فعرضت على أبي الحسن علي بن محمّد عليه السلام فكان أحدها أن قال له: أخبرني عن يعقوب وولده أسجدوا ليوسف وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه السلام: أما سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف إنّما كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله لاجتماع شملهم..).
وعن الاحتجاج للطبرسي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: (أنّ زنديقاً قال له: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا، قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟! فقال: إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله). [1]
وهذه الروايات وان كانت ضعيفة وكذا غيرها مما ورد في هذا الموضوع الا ان جمعا من العلماء ذكروا هذه الوجوه في دفع الاشكال تبعا للروايات فينبغي البحث عنها والصحيح ان هذه الوجوه ضعيفة ايضا كالروايات.
وتتلخص هذه الوجوه في ثلاثة:
الاول أن سجود يعقوب عليه السلام واولاده انما كان شكرا لله بان جمع شملهم.
والثاني ان السجود في الموردين انما كان الى يوسف وادم عليهما السلام لكونهما قبلة ولم يكن لهما.
والثالث ان جوازه مستند الى امره تعالى فيكون تقربا اليه واطاعة له وان كان السجود لادم ويوسف عليهما السلام.
اما الاول، اي كون سجود يعقوب واولاده سجودا لله تعالى وان يوسف كان قبلة لهم او كان سجودهم شكرا لله تعالى وكان يوسف معهم ايضا فمما يأباه ظاهر الآية الكريمة (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا..).[2]
خصوصا بملاحظة الآية التي تنقل قصة الرؤيا (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)[3] فان اللام في الموضعين يدل على ان السجود كان له عليه السلام لا اليه ولا يصدق على من يتوجه الى الكعبة في سجوده انه سجد لها كما هو واضح.
وكذلك سجود الملائكة فقد قال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).[4]
فالسجود هنا ايضا كان لآدم عليه السلام وليس اليه وهذا هو ما استكبر عنه ابليس واعتبره منافيا لافضلية عنصره وأنه من النار وهذا من الطين.
وهذا واضح من التعبير في قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).[5]
وأما الوجه الثالث وهو ما ورد في الحديث الاخير من أن السجود لآدم عليه السلام كان بامر من الله تعالى فهو الذي ارتضاه السيد الخوئي قدس سره حيث قال:
(ان السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع ولذلك قد خصه الله بنفسه ولم يرخص عباده ان يسجدوا لغيره وان لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد والربوبية للمسجود له غير ان السجود لغير الله اذا كان بامر من الله كان في الحقيقة عبادة له وتقربا اليه لانه امتثال لامره وانقياد لحكمه وان كان في الصورة تذللا للمخلوق… (الى ان قال) وهذا هو الوجه الصحيح).[6]
ولكن هذا الوجه مع انه لا يأتي في السجود ليوسف عليه السلام انما يصح لو كان السجود لغيره تعالى حراما بعنوانه الخاص لا باعتبار انه غاية التذلل وينطبق عليه عنوان العبادة لان حرمة عبادة غيره تعالى لا تقبل التخصيص.
ولذلك قالوا بان العبادة تستلزم الشرك والكفر وحرمتها ممّا اتفقت عليه الموحّدون بأجمعهم وتعتبر في نظرهم الفاصل بين الشرك والتوحيد فاذا كان السجود هو المصداق الطبيعي للعبادة بحيث لا يتوقف انطباقها عليه على اعتبار وتشريع فلا يمكن تجويز السجود لأيّ أحد.
ومن هنا نجد ان جمعا من الفقهاء استدلوا على حرمة السجود لغيره تعالى بانه غاية التذلل فلا يجوز الا لمن هو في غاية العظمة فلا بد من تأويل ما ورد مما ظاهره ذلك.
ولعل الاولى ان يحمل السجود في قصة يوسف على الانحناء والاحترام ففي جمهرة ابن دريد (اصل السجود ادامة النظر في اطراق الى الارض) وفي الصحاح (سجد: خضع).
وعليه يحمل قوله تعالى خطابا لبني اسرائيل (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) في ثلاث مواضع من الكتاب العزيز[7] اذ لا يمكن دخول الباب في حال السجود بالمعنى المعروف.
ولا ينافيه التعبير بالخرور فانه بمعنى السقوط ولا يستلزم وضع الجبهة ونحوها على الارض فيمكن ان يسقطوا على الارض على ركبهم خاضعين له من دون وضع الجبهة نعم لو كان التعبير (خرّوا على وجوههم) لم يمكن الحمل على غير السجود.
ويدل على ذلك ان الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام من سجود الشمس والقمر والكواكب لا يمكن حملها على وضع الجبهة على الارض.
وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام فلا شكّ انه ليس من قبيل وضع الجبهة على الارض فان الملائكة ليست اجساما فلا بد من حمل الامر بالسجدة على معنى اخر يقتضي نوعا من الاحترام والاكرام.
بل لعله ليس بهذا المعنى ايضا فيمكن ان يكون المراد امرهم بان يلاحظوا في تدبيرهم لشؤون الارض ان هذا الكائن له حق الاختيار فهو يختلف عن سائر الموجودات والكائنات الارضية وحيث ان الملائكة هم الوسائط بين الله وخلقه وهم من ينفذون الاوامر الالهية في جميع شؤون الكون فلعل الامر بالسجود بمعنى تنفيذ طلب الانسان فيما يحاول تحقيقه اذ لا يمكنه الوصول الى اهدافه لولا مساعدة العوامل الغيبية.
ولعل هذا هو الوجه في تعبيره تعالى عن الانسان بانه خليفة الله في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).[8]
ولعلهم ايضا علموا من هذا التعبير انه يفسد في الارض ويسفك الدماء لانه مقتضى حريته واختياره والمراد بالخليفة الانسان لا ادم عليه السلام بشخصه والمسجود للملائكة ايضا هو الانسان كما يستفاد من قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..).[9]
كل ذلك نقولها من باب الاحتمال لدفع الشبهة والله العالم بحقائق الامور.
بقلم سماحة العلامة السيد مرتضى المهري
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة ج6 ص388 باب عدم جواز السجود لغير الله 27 من ابواب السجود
[2] يوسف: 100
[3] يوسف: 4
[4] الحجر: 29- 33
[5] ص: 72- 76
[6] البيان في تفسير القران ص474
[7] البقرة: 58 / النساء: 154 / الاعراف: 161
[8] البقرة: 30
[9] الاعراف: 11