شفقنا العراق-كيف يوفّق بين نزول القرآن في ليلة واحدة كما صرّحت به الآيات وبين الواقع التاريخي الواضح وهو ان القرآن نزل في غضون ثلاث وعشرين سنة؟
وقد حاول العلماء الجمع بينهما بوجوه ذكرنا تفاصيلها في تفسير سورة الدخان ومجمل القول فيها كما يلي:
الوجه الاول
أن المراد نزول اول آية من القرآن في ليلة القدر وذلك لان تحديد تاريخ الامور التدريجية انما يتم بملاحظة وقت ابتداء تحققها لا نهايتها فاذا نزل جيش مثلا في مكان واحتاج استقرار جميعهم الى مدة طويلة كشهر مثلا فان تاريخ نزولهم يعتبر يوم ورود طلائعهم ومقدمتهم وهكذا سائر الامور التدريجية.
نعم ربما ينافي ذلك ما اتفقت عليه الامامية من أنّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وان لم نجد له دليلا واضحا فان الروايات التي تشتمل على ذلك كلها ضعيفة الا انه من الشهرة بمكان يكاد يوجب الوثوق.
وعلى تقدير الثبوت يمكن أن يكون هذا اليوم اي السابع والعشرين من شهر رجب هو اليوم الذي اوتي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فيه النبوة ولا ملازمة بين ارسال الرسول وانزال الكتاب فان موسى عليه السلام ارسل رسولا ولم يؤت التوراة الا بعد سنين طويلة.
فلا منافاة بين كون البعثة في رجب وان تكون ليلة القدر وقت نزول اول مجموعة من ايات القرآن الكريم والمشهور انها مطلع سورة العلق وقد تبين انه لا دليل عليه بل سياق الآيات يأبى عن ذلك كما مر في تفسيرها.
الوجه الثاني
ان القرآن نزل جملة واحدة الى البيت المعمور في شهر رمضان وهو بيت في السماء محاذ للكعبة المشرفة كما في الحديث ثم نزل تدريجا في غضون ثلاث وعشرين سنة.
وورد ذلك في بعض الروايات ولكن السند ضعيف.
ومن المستبعد جدا ان يمنّ الله تعالى علينا بنزول القران في البيت المعمور خصوصا انه جعل ذلك منشأ لكرامة شهر رمضان وليلة القدر.
بل يبدو من قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..) أن تشريع الصوم في شهر رمضان من اجل الشكر لهذه النعمة العظيمة لانه تعالى رتّب وجوب الصوم في الشهر على نزول القران فيه ونحن لا نشعر بنعمة في نزول القران الى البيت المعمور.
بل ربما يظهر منها أن النزول فيه كان معلوما لدى عامة المسلمين في ذلك العصر اذ لم يرد بصورة الاخبار به بل بصورة التوصيف مما يدل على أنهم كانوا يعرفونه بهذا الوصف ولا شك أنهم ما كانوا يعرفون نزوله في البيت المعمور.
وهنا اشكال آخر وهو ان القرآن المنزل تدريجا لا يمكن جمعه في زمان قبل ذلك مطلقا لان الآيات نزلت بشأن الحوادث الواقعة ولا يمكن التعبير عن هذه الحوادث قبل حدوثها باللفظ الماضي.
وهناك وجوه اخرى من هذا القبيل وقد ذكرنا الجواب عنها في تفسير سورة الدخان وقلنا إن نفي هذا الوجه كاثباته لا يستند الى دليل قطعي.
الوجه الثالث
ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس الله سره في تفسير قوله تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن..) وقد نقلناه بالتفصيل في تفسير سورة الدخان.
وملخصه أن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبّرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل الدال على التدرج والسر فيه ان الكتاب له حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي وهو بهذا المعنى نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دفعة واحدة ثم نزلت الآيات بالتفصيل تدريجا في غضون سنين وهذه الحقيقة ليست فيها تفاصيل وآيات وسور وقال ان هذا الكتاب الذي نراه ونقرأه بالنسبة لتلك الحقيقة بمنزلة اللباس من المتلبس واستدل على ذلك بعدة من الآيات.
وناقشنا هذه النظرية في تفسير سورة الدخان بالتفصيل وقلنا بالنهاية انها وان لم يكن لها دليل فنحن لا ننفيها أساسا وتبقى هي ايضا مجرد احتمال.
الوجه الرابع
ما ذكره جمع من العلماء ايضا وارتضاه سيدنا العلامة قدس سره حيث انه بعد التاكيد في الجزء الثاني من الميزان على الوجه المذكور ورفضه احتمال النزول جملة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عدل في تفسير سورة الدخان وفي ذيل قوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) فقال: (ولعل الله سبحانه أطلع نبيه صلى الله عليه واله وسلم على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول آية او آيات او سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة قبل نزوله تدريجا ومفرقا ومآل هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله الى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الارض واستقراره في مرحلة العين وعلى هذا الوجه لا حاجة الى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الاول).
ومراده بالوجه الاول ما نقلناه منه آنفا.
وعلى ذلك فيكون هذا توجيها آخر وهو ان القرآن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم تفصيلا لا اجمالا ودمجا ولكن في ضمن اعلام الله تعالى له بتفاصيل ما سوف يقضي به من حوادث تستتبع نزول الآيات فيكون بذلك قد اطّلع على الآيات ضمنا.
وهذا الوجه لا بأس به ايضا وان كان نزول كل هذه التفاصيل في ليلة واحدة امر مستبعد في العادة.
وعليه فكل من الوجوه الاربعة محتملة في المقام وبكل منها يمكن توجيه الآيات المذكورة ورفع التنافي بينها وبين النزول التدريجي والحمد لله.
ولكن الوجه الاول أقرب.
المصدر: موقع سماحة العلامة المهري