شفقنا العراق-قال تعالى: ﴿وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾﴿البقرة الآية 207﴾.
تتحدث الآية الكريمة عمن امتلك زمام نفسه وضبط حركتها في الحياة وفق عقله الواعي، والذي يتجه دوما نحو رضا المعبود وتحقيق إرادته في الأرض، وهذا الكمال الذي يحوزه تنتشر أنوار إشراقاته بكل اتجاه في حقل العطاء وبذل المكنة وكل ما يستطيع من قدراته ليسخرها في طريق العون والمساعدة، فتعبر الآية الكريمة عن روح التفاني والتضحية والتجرد من حب الذات الأناني ببيع النفس ليكون ثمنها رضا الله تعالى، والعطاء مفهوم مشكك ليس بمستوى واحد بل هو درجات يرتقي فيها المرء.
كلما جاهد نفسه وتخلص من حب حطام الدنيا الزائل، فأقام وجوده ورسخ معالم شخصيته وفق مبدأ العطاء، وقد اعتلى هذا الإنسان الكامل قمة الهرم فبذل أعز ما يملك وهي روحه التي بين جنبيه، إذ قد نرى من يجود بماله فيبذله في سبيل مساعدة الفقراء والمحتاجين، فيجعله ذخرا وزادا له في يوم القيامة لنيل عفو الله تعالى ورضوانه، وهناك مرتبة أخرى وهي المعونة المالية المتمثلة في بذل الوقت والجهد للمساعدة في حل مشكلات الآخرين والتخفيف عما علاهم من هموم وأحزان.
ولكن الدرجة العليا هي بذل النفس التي لا تعوض ولا تجبر في سبيل الله تعالى، ففي الوقت الذي يفتدي نفسه من المرض أو الموت بماله مهما ارتفع الثمن لمعزة النفس، ولكن لا يمكن التفريط بالنفس وإسقاطها في موارد الهلاك والعطب، وهذه النوعية من الناس ممن امتلكوا معرفة حقة وفهما بحقيقة الدنيا هم أهل العطاء، فصرفوا همتهم وعملهم الحثيث نحو الحياة الخالدة، فلم يكن لهم يوما أي تحرك أو سكون من أجل مصلحة دنيوية أو منفعة يطلبونها، فمعيار تفكيرهم وتصرفاتهم هو تحقق الرضا الإلهي في ذلك بعيدا عن العاطفة العمياء والأهواء المضلة.
حياة أمير المؤمنين كانت مصداقا للتجارة مع الله تعالى، فبذل في سبيله كل غال ونفيس ولم يبخل بشيء حتى نفسه الطاهرة كانت مستعدا في كل وقت لتقديمها في سبيل عزة ورفعة الدين والحفاظ على قيمه العالية، والأمل يحذوه ممزوجا بالشوق والتحري للقاء الله تعالى متوشحا بوسام الشهادة وبذل النفس؛ ليخط للأحرار ممن تخلصوا من شح النفس وحب زينة الدنيا طريق التضحية والتفاني والجهاد في سبيل الله تعالى.
إذ متى ما انشغل المرء بنفسه وكرس وقته وجهده للعمل على تحقيق رغباتها ومشتهياتها ابتعد حينها عن خط الفداء لعلي ، وتقوقع حول ذاته الأنانية وقصر نظره على ملذات الدنيا وتسرب إليه الجبن والخوف على الممتلكات والمال، وهذا ما كان ممن انحرف عن جادة الحق وضل طريق الصواب وعادى أولياء الله تعالى بسبب حرصه الشديد على المغريات.
لقد كان من أجلى مصاديق الفداء والإيثار عند أمير المؤمنين ما كان منه يوم بات على فراش رسول الله ﷺ بطلب منه ليموه على مشركي قريش أثناء خروجه وهجرته من مكة إلى يثرب، فلم يتوان أو يتلكأ في الاستجابة لذلك، مع إدراكه لمخاطر الموقف إذا بات على فراش الرسول ﷺ، إذ سيحيط به الأبطال من الأعداء وهو وحيد بما يعني الموت المحقق في مثل هذا الموقف.
ولا أحد جدير بهذه المأثرة والفضيلة كالإمام علي لما يمتلكه من مقومات التضحية والشجاعة تؤهله لهذه المرتبة من الفداء، والذي يتطلب من جندي الإسلام أن يحمل روحه على كفيه ليبذلها في سبيل حفظ قائد الأمة ﷺ.
الإمام علي (ع) والإيثار
ورد عن أمير المؤمنين : أفضل السخاء الإيثار» «غرر الحكم: 2888».
إذا سما الإنسان في أفق التربية الروحية وتخلص من أغلال وقيود الأنانية وحب الذات الجنوني، فإنه سيستشعر السعادة وراحة البال بمشاركته الوجدانية مع آلام واحتياجات الآخرين من حوله، وسيهرع بكل قواه وجهده للتخفيف عما يعانون منه من هموم وحزن، وللعطاء قلوب بيضاء تتحاشى المشاعر السلبية والحقد تجاه الغير، بل تنظر للغير بعين الاحترام والمودة وتستظل معها تحت مظلة التكاتف والتكافل الاجتماعي، فلا يجد غضاضة من تقديم المساعدة لأي إنسان دون تأطيره عنصريا أو أي جهة من جهات التزمت الاجتماعي، وهذه سيرة العظماء وهم يعملون بأنفسهم على تخفيف وطأة الفقر والاعتياز عن الآخرين.
ليرسموا معالم منهج العطاء والإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد أشاد القرآن الكريم بالعترة الطاهرة لرسول الله ﷺ وقد قدموا طعام إفطارهم لثلاث ليال متوالية في عطاء منقطع النظير، وذلك أن عطاءهم كان في أعلى درجات البذل وهو الإيثار أي تقديم حاجة الآخر مع احتياج الباذل لذلك، وهو موقف يدل على بلوغهم أعلى درجات الزهد في الدنيا وموت الأنانية عندهم وبلوغ المشاركة والمساعدة في نفوسهم أعلى درجاتها، فصفة الإيثار تعني نفي صفة الحرص الشديد والطمع في الحصول على ملذات الدنيا المادية.
والتخلص من مرض شح النفس المؤدي إلى صفة البخل والإعراض التام عن تقديم أي مساعدة لمحتاج، فيسير وفق فكرة النفعية والمصلحة الذاتية والتي تقصر همته وجهده على البحث عما ينمي ماله ويرسم مستقبله فقط، ولذا يرى في مساعدة الغير تضييعا للمال لا يمكنه أن يقدم عليه، ويسري بخله للناحية المعنوية فهو شحيح حتى بجهده ووقته للعمل من خلاله على التخفيف عن المهمومين.
صفة العطاء العالية ترسم العلاقات الاجتماعية والإنسانية وفق أعلى معايير الاستقرار والتفاعل والإنتاجية، وذلك أن الود والثقة المتبادلة ترسيها المشاركة الوجدانية والسعي لقضاء حوائج الآخرين، بما يشعرهم بوجود العون والمعين الذي يهتم بتفقد أحوالهم والسعي الحثيث على الاستماع لمشاكلهم والعمل المشترك على إيجاد الحلول المناسبة والمرضية، إنه حب الخير والعطاء الذي يحرك أصحاب النفوس الطيبة والذي يدفعهم نحو الأخذ بأيدي الآخرين ممن يعانون من الظروف الصعبة في حياتهم، وهذا من أهم الدروس المستقاة من سيرة أمير المؤمنين والذي يخط طريق التلاحم والتكاتف والمحبة بين أفراد المجتمع.
فهذا يعد من الوجوه المشرقة للحضارة الإنسانية التي تعلو على منطق الأنانية والمصلحية؛ لينطلق المؤمنون في طريق مجاهدة النفس ومحاربة الأهواء والافتتان بزخارف الدنيا والتكالب على جمع وكنز الأموال مع التغافل عن آلام وحاجات الفقراء من حوله، فالقيم الأخلاقية تجعل من العطاء والسخاء قيمة إنسانية تحقق وجود الإنسان الحقيقي وترفع شأنه، ولولا هذه القيمة العالية لتحولت حياة البشر نحو قانون الغاب الوحشي الذي لا يقبل وجودا للضعيف إلا في خانة الاستبداد وانتهاك حقوقه.
وأمير المؤمنين عاش حياة العطاء في جميع اتجاهاته وكل المستويات العلمية والأخلاقية والاقتصادية، إنه أبو المساكين واليتامى والذين كانوا يستشعرون دفء يده الطاهرة، فلا يهدأ له بال وهو يرى الفقر يكشر عن أنيابه لينهش أحدا، وأشاد القرآن الكريم بمورد في حياته في آية الإطعام؛ ليثير روح الإيثار وتقديم حاجات الناس وإيلائها الأهمية القصوى في سلم الاهتمامات والجهود عند أصحاب القلوب البيضاء.
السيد فاضل علوي آل درويش/جهينة الإخبارية
————————-
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–