شفقنا العراق-إن من يمتلك أدنى بصيرة عن أوضاع العراق في فترة النظام الدكتاتوري البعثي يلحظ وبصورة واضحة أن العراق بدأ ينهار (كدولة) بفعل دكتاتورية السلطة وأفعالها اللاإنسانية.
لكن الجانب الأهم من هذا الانهيار كان يستهدف بنية المرجعية الدينية ومكانتها وحضورها العاطفي والوجداني والفكري والسياسي. في حين كانت النجف الأشرف غير مهيأة لمواجهة هذا التحدي بحكم سطوة الأجهزة ومشروع الانهيارات الذي كان يعمل على تهشيم كل شيء وتهميشه.
كان السيد الخوئي (قدس سره) المرجع القائد المتحصن بالنجف، المتفتح على المسألة العراقية وكان يدرك أن لعبة السلطة تستهدف إحداث الاختراق الكبير في البنية وصولا إلى تنفيذ هدف الإبادة الشاملة لعواطف الناس ووجدانها، بعد أن استطاع النظام من تكبيل العراقيين بقيود الخوف والقمع ومصادرة الحريات والحروب الطاحنة وعسكرة المجتمع، ولم يكن الإمام الخوئي يمتلك الكثير من الأوراق بسبب الحظر والقيود والمصادرة باستثناء الورقة المؤثرة وهي النجف والحوزة وقرار المرجعية ومكانتها في النفوس.
في تلك الفترة عمل السيد الخوئي على حماية الحوزة العلمية ومدارس العلم ومكانة المرجعية في المجتمع، ونأى بعيدة عن الممارسات السياسية كافة.
وما ينطبق على مرحلة السيد الخوئي هو ذات ما ينطبق على مرجعية السيد السيستاني مع الالتفات إلى الفارق السياسي الكبير والواضح بين تعامل السيد الخوئي مع عهد النظام الجائر ـ بحكم السطوة الأمنية الشديدة ـ على حماية الدور العقائدي للحوزة في الأمة، والحفاظ على مكانة المرجعية الدينية رغم الإجراءات التعسفية للنظام ضد العلماء والفقهاء، لكن السيد السيستاني عالج المسألة عبر ترشيد (العملية السياسية) الجارية في البلاد مع تشديده على تحديد دور رجال الدين في السلطة السياسية. فهل التحديد صمت أو أن للسيد السيستاني استراتيجية سياسية تضع المرجعية في موقعها الأساسي من قيم الأمة وتعطي للفعاليات السياسية فرصتها المهمة من صناعة الأدوات المحركة للسياسة والحكم وإدارة البلاد؟
وما يعنينا هنا أن المرجعية في النجف الأشرف مرت بأطوار لعب التاريخ وتحولات البلاد الاجتماعية والسياسية وأوضاع المجتمع العراقي دورا مهما في تطوير حركتها وتوليف مواقفها السياسية. وبجرة قلم نلحظ أن هنالك نسقاً من المواقف والجهود الفكرية والسياسية بذلتها المرجعيات المتعاقبة على النجف اسهمت إلى حد كبير في بلورة أنساق وتوجهات وولدت انفجارات وعي كبيرة لا يمكن تجاهلها في غمرة الكلام السياسي المثار اليوم حول سكوت بعض المرجعيات الدينية عما يجري في البلاد.
وهنا لا بد لنا أن نثير سؤالا من يمتلك مقياس وضع إشكالية السكوت والثورة؟ وهل أولئك الذين يصنفون المرجعيات الدينية يمتلكون الوعي التاريخي والسياسي بتحولات المجتمع والدين ومرجعياته أم لا؟
وما ينبغي قوله هنا إن المرجعية الدينية وفي الكثير من المراحل لا تمتلك العصا السحرية التي تستطيع من خلالها تحريك هذا المفصل من حركة الأمة وإثارة ذلك تماما كما يجري في الحزب السياسي والتنظيم الحركي الذي يواجه في مراحل حياته السياسية تحديات وعقبات وإشكاليات وضغوط محلية ـ داخلية ـ تجبره على إخلاء الساحة أو الانسحاب إلى إقليم آخر أو السكوت وعدم إشهار المواقف.
ما حدث في الحقيقة أن ذات الأحزاب والكيانات السياسية التي كانت تجد في مرجعية السيد السيستاني مرجعية ساكتة عادت إليه بوصفه يشكل ضمانة مهمة لتسديد العملية السياسية ( الدولة ـ القوى السياسية ) الخيمة التي تجتمع قوى الدولة تحت أعمدتها ولا مفر من أخذ رأيه والاسترشاد بتوجيهاته ووصاياه وأقواله ورؤيته الفقهية والسياسية.
اقتباس من: بحث (الدولة المدنية عند السيد السيستاني) للكاتب، منشور في مجلة كلية الفقه 2012، العدد 15، الصفحات 277-302.