شفقنا العراق-فيما يلي الجزء الثاني من مقال سماحة العلامة السيد منير الخباز، نشر جزؤه الأول، يوم الأحد، وكان الحديث فيه عن الاتجاهات الفكرية السائدة حول نشأة إيمان الإنسان بمبدأ الوجود. حيث دار الكلام عن الاتجاه الأول، وكان في علم الاجتماع. أما الاتجاه الثاني فهو في الفلسفة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه في الفلسفة
الاتجاه الفلسفي يرى أن نقطة الانطلاق بمبدأ الوجود أعمق مما طرحه علماء الاجتماع في النظريات الثلاث، فإن نقطة الانطلاق إلى الإيمان بمبدأ الوجود من خلال الإيمان من أن الوجود يساوي الحركة، وهنا تلتقي فيزياء الكم مع الفلسفة، ففي الفيزياء التقليدية كنّا نعتقد أن الكون قِطَعٌ متناثرة فهناك إنسان وجماد وحيوان وشجر وشمس وقمر، وهذه القطع المتناثرة تَرْجِعُ إلى أشياءَ ثابتة، فَكُلُّ مركبٍ يرجع إلى أجزاء أولية ثابتة، إذن الكون متناثر وثابت، وأما فيزياء الكم تقول أن الكون «الوجود» الذي نحن ننعم بأجوائه يعيش ثلاث مواصفات:
الصفة الأولى
أَنَّ الوجود كُلٌّ واحد لا أنه أجزاء متناثرة، بل نحن نراه بألوان مختلفة، فنحن نرى شمسا وقمراً وإنساناً وجماداً، فالكون كله وجود واحد وطاقة واحدة، وهذه الطاقة تتمظهر لنا بألوان مختلفة نرى فيها جماداً وحيواناً وإنساناً، وإلا كُلُّ هذهِ ألوانٌ فهو وجودٌ واحدٌ يَتَمَظْهرُ ويبرز أمامنا بألوانَ مختلفةٍ وصورٍ متحركة وإلا فالوجود كلٌّ واحد، فلا تستطيع أن تقول هذا أول وهذا آخر وهذا وسط، بل هو كتلة ووجود وكلٌّ واحد.
الصفة الثانية
لا يوجد عندنا عناصر ثابتة، فإن كل ما تضع يدك عليه فله جزئيات تحت الذرية، وهذه الجزئيات لا استقرار لها بل هي في حركة دائم، إذن هذا الوجود كلّه يعيش على صفيح متحرك حركة دائمة مستمرة، فلا يوجد شيء اسمه ثبات في عالم الكون، ولا يوجد شيء اسمه استقرار في عالم الكون، فهذا الاستقرار إنما هو نظرة نسبية لا أكثر، فالكون يساوي الحركة.
الصفة الثالثة
أن المادة والوعي متزاوجان فلا تتوهم أن المادة عمياء وأن الوعي غير مادي، فالمادة والوعي متزاوجان ومنسجمان ومتعانقان ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فلولا المادة لما تحرك الوعي، فالوعي يحتاج إلى مثير والمادة هي المثير لحركة الوعي، فالإنسان يمتلك هذه الحواس الخمس، ومن خلال الحواس الخمس يتواصل مع عالم المادة، ومن خلال هذا التواصل يبرز المثير الذي يُحرك الإدراك والوعي عنده، والوعي نفسه لولاه لما ارتبط الإنسان بالمادة، فبالوعي أدرك الإنسانُ أنَّ هناك نظاماً ماديّا يَحْكمه ويحكُم وَعْيَهُ ويحكُم سائِرَ ما حَوْلَه، فالوعي والإدراك والمادة متزاوجان.
الملا صدرا الشيرزاي قبل 250 سنة ـ أي قبل أن تظهر فيزياء الكم وقبل أن يذهب علماء الفيزياء إلى هذه النظرية بتفاصيلها ـ ذهب إلى مقولة الحركة الجوهرية، وهي أن الكون يعني حركة، فلا يوجد شيئا غير متحرك، فهناك حركة ظاهريةٌ وهناك حركةٌ واقعيةٌ حقيقيةٌ، فحركة الشمس والقمر وحركة الأرض وحركةُ الإنسان فإن هذه كلّها حركات سطحية، وهذه الحركات السطحية تكشِفُ عَنْ حركةٍ أَعْمق وفي صميم الوجود وفي صميم المادة وفي قلب كل شيء فالوجود كلّه يعني الحركة، فالوجود كلّه في كل لحظة يخلع ويلبس ويموت ويحيى، فهو في كل لحظة هو يعيش حالة بالتزاوج بين الموت والحياة.
فعندما يقول القرآن الكريم: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ… «2»﴾ [الملك: 1 – 2] فليس المقصود بالموت والحياة يعني موت الإنسان وحياة الإنسان، فإن المقصود بالموت والحياة عند هؤلاء الفلاسفة كلَّ شيء في الكون، فإن كل شيء يعيش في كل لحظة بين موت وحياة؛ لأنه في كل لحظة يعيش الحركة وينتقل من حال إلى حال فيخلع حالا ويلبس حالا أخرى ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾، والإنسان هو حركة ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، فأنت أيها الإنسان تعيش حركة ليست باختيارك ولا تقل أنك تعيش باختيارك بل أنت تتحرك قسراً عليك، وأنت تمشي في طريق قسراً عليك شئت أم أبيت ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، فالكون يعني الحركة، والوجود يعني الحركة، الحركة الجوهرية يعني في صميم الوجود وفي قلب الوجود، وهذه الحركة بدأت مادية وأصبحت وعيا، فالوعي هو تطور في حركة المادة، والوعي هو انعكاس لحركة المادة، فكما أن هذه البذرة تحمل في قلبها حركة فأنت تراها بذرة بسيطة إلا أن هذه البذرة متحركة، فبمجرد أن تضعها في التراب وتسقيها ماء وتُغذيها سمادا فإن البذرة تتحرك وتتحول إلى شجرة مثمرة، فالبذرة أخرجت ما في صميمها من الحركة وتحولت إلى شجرة مثمرة، كذلك الحويمن المنوي يلتقي مع البويضة ثم يستقر في جدار الرحم، فإن هذه البويضة الملقّحة تعيش الحركة في صميمها ثم تتحول هذه الحركة إلى جسم فإنسان ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]، فهو مَلَكَ وَعْياً ومَلَكَ إدراكاً وملك مشاعراً وملك عواطِفاً، فإن وعيَهُ ومشاعِرَهُ هي تطورٌ للحركةِ في صميم المادةِ وفي صميم البويضة المُلَقّحة.
هذه النظرية الفلسفية والتي تؤمن أن الوجود حركة، إذن لابد لهذه الحركة من محرّك ومطلق أطلق شرارتها وأعطاها طاقة البقاء والاستمرار وحولها إلى حركة دائبة حيث أطلق شرارتها فإن هذه الحركة تستند إلى محرّك، فالانتقال إلى مبدأ الوجود والإيمان به انطلق من الإيمان بأن الكون يساوي الحركة فلابد له من محرّك.
بقلم العلامة السيد منير الخباز