شفقنا العراق-كان الاعتداء الأميركي الغاشم بالقرب من مطار بغداد الدولي صبيحة يوم 3/1/2020 والذي طال السيادة العراقية فخرقها والمواثيق الدولية فانتهكها وأدّى إلى “استشهاد عددٍ من أبطال معارك الانتصار على الإرهابيّين الدواعش”، صدمة عنيفة لم يفق منها الجميع إلى الآن.
كما ولم أعثر قبال ذلك على ردة فعل واحدة ترقى إلى مستوى تلك الصدمة المروعة من قبل جميع الأطراف المعنية التي تفاجأت بالحدث، تكون بإمكانها أن تمتص عنفها وعنفوانها أو تقلل من شدة وطأتها على النفوس على أقل تقدير.
ولكني وجدت ردة فعل واحدة جاءت بمستوى تلك “الصدمة العنيفة” إن لم تكن أقوى وأشد (إن تم الالتفات إليها).
ألا وهي دعوة المرجع الأعلى السيد السيستاني “دام ظله” في اللجوء إلى الله تعالى برفع الأكف والدعاء بدعاء مخصوص عقب فاجعة يوم 3/1/2020.
فبعد أن حذر المرجع الأعلى ببيان مُقتضب، وأنذر من عواقب الفاجعة الأليمة التي توجت فواجع أخرى من اعتداءات أميركية سافرة سبقتها كاستهداف مواقع للحشد الشعبي في مدينة القائم, بأنها “تُنذر بأنّ البلد مقبلٌ على أوضاع صعبة جدّاً”، ودعا بالوقت نفسه “الأطراف المعنيّة إلى ضبط النفس والتصرّف بحكمة”، ودعا إلى رفع الأكف بالدعاء إلى الله تعالى مباشرة بدعاء مخصوص هو “اللهم إليك أفضت القلوب ومُدت الأعناق وشخصت الأبصار ونُقلت الأقدام وأنضِيت الأبدان اللهم قد صرح مكنونُ الشنآن وجاشت مراجل الأضغان اللهم إنا نشكو إليك تشتّت أهوائنا وكثرة عدونا وقلة عددنا ففرج عنا يا رب بفتح منك تُعجله ونصر منك تُعزه برحمتك يا أرحم الراحمين, آمين رب العالمين” (1).
لست بصدد بيان مضامين هذا الدعاء الذي كان أمير المؤمنين عليّ يدعو به إذا لقى العدوّ مُحاربا إياه، ولا مناقشة توقيت طرحه، وإن كان يستشف منه أنه جاء اختزالا لجميع محاذير المرجعية العليا وإنذاراتها التي لم تلقى آذانا صاغية ولا قلوب واعية من جميع الأطراف الداخلية والخارجية على طول سنيّ العملية السياسية وعرضها، وهي النتيجة الطبيعية المأساوية لما آلت له صدود وعقوق الجميع وخصوصا الطبقة السياسية لنصائحها وإرشاداتها.
إلا أن الدعاء في الحقيقة قد وضع العراق وشعبه وجميع الأطراف المعنية أو هكذا يجب أن يكون الأمر، على خط الصد الأول مع الآتي الأخطر، من كل خطر مرّ على العراق وجها لوجه، حتى تطلب ذلك الدعوة بالتوجه إلى الله عز وجل مباشرة، حيث لا شكوى إلى أحد إلا له عز وجل مع تشتت الأهواء، ولا مهرب من أحد إلا إليه سبحانه مع كثرة الأعداء، ولا منجى من أحد إلا منه هو الرحمن الرحيم.
كما أن الدعاء بمثابة دعوة للشعب ولجميع الأطراف إلى مُغادرة دائرة تعقل تلك الصدمة بالانفعال والاستغراق بحرارته السلبية الجياشة، والدفع بالذهاب نحو أفق تعقلها بالحكمة وإلا فلا.
إن للمرجعية العليا أساليبها في موضوع تحذير الأمة من المخاطر والأزمات التي تواجهها عبر التاريخ.
فهي أمينة على المصالح العليا للأمّة لذلك فهي “تُراقب بدقة الأحداث محليا وإقليميا ودوليا” (2)، وأنها “تُراقب الأداء الحكومي وتشير إلى مكامن الخلل فيه متى اقتضت الضرورةُ ذلك”(3).
فهي حذرت وأنذرت وأرشدت ونصحت عبر وسائل خطابها المتنوع من بيانات واستفتاءات ورسائل ولقاءات وخطب جمعة وغير ذلك.
والمتتبع لخصوص نمط خطاب خطب الجمعة المتعلق بالشأن العراقي العام في الفترة الأخيرة قبل توقفها بسبب جائحة كرورنا، يجد الإنذار والتحذير من وقوع الكوارث ومنها كارثة المطار، حاضرة وقائمة على طول الخط بأسلوب جديد ربما لم نألفه من قبل.
فلو رجعنا وراجعنا جيدا خطب الجمعة إلى ما قبل شهر تقريبا من واقعة المطار سنطالع ذلك التسلسل الزمني التصاعدي المُنذر بالخطر في مواقف المرجعية العليا وهي كالآتي:
- في خطبة جمعة كربلاء الثانية 6/12/2019 قالت المرجعية العليا: “ونعيد هنا التحذير من الذين يتربّصون بالبلد ويسعون لاستغلال الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح، لتحقيق أهداف معيّنة تنال من المصالح العُليا للشعب العراقيّ ولا تنسجم مع قِيَمه الأصيلة”(4).
وجاء تكرار هذا التحذير في جوّ يعيشه العراق وشعبه مليء بالعنف والإجرام وسفك الدماء والفوضى، والإخلال بالنظام العام والاعتداء على القوات الأمنية وبالعكس، والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة ومصالح المواطنين، بلا مسوغ شرعي أو قانوني. وتجدر الإشارة هنا إلى أمل المرجعية العليا بأن يكون اختيار “رئيس الحكومة الجديدة وأعضائها.. بعيداً عن أيّ تدخّلٍ خارجي”.
- في خطبة جمعة كربلاء الثانية 13/12/2019 قالت المرجعية العليا: “التأكيد على ما سبق ذكره من ضرورة أن يكون بناء الجيش وسائر القوات المسلحة العراقية وفق أسس مهنية رصينة بحيث يكون ولاؤها للوطن، وتنهض بالدفاع عنه ضد أي عدوان خارجي، وتحمي نظامه السياسي المنبعث عن إرادة الشعب، وفق الأطر الدستورية والقانونية.. وضرورة أن يخضع السلاح -كل السلاح- لسلطة الدولة، وعدم السماح بوجود أي مجموعة مسلحة خارج نطاقها تحت أي اسم أو عنوان. إن استقرار البلد والمحافظة على السلم الأهلي فيه رهن بتحقيق هذا الأمر” (5).
- في خطبة جمعة كربلاء الثانية 20/12/2019 قالت المرجعية العليا: “لا يزال البلد يعيش أوضاعاً صعبةً ومُقلِقَة. وعلى ذلك فإنّ أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي -لا سمح الله – هو الرجوع إلى الشعب بإجراء انتخاباتٍ مبكّرة.. وختاماً نأمل أن لا يتأخّر طويلاً تشكيلُ الحكومة الجديدة.. تتمكّن من استعادة هيبة الدولة وتهدئة الأوضاع، وإجراء الانتخابات القادمة في أجواء مطمئنة، بعيدة عن التأثيرات الجانبيّة للمال أو السلاح غير القانونيّ وعن التدخّلات الخارجيّة”(6).
- في يوم 26/12/2019 الخميس مساء كان هناك تصريح مُفاجئ لمصدر مسؤول في مكتب سماحة السيد (دام ظلّه): “لن تكون للمرجعية الدينية في يوم غدٍ الجمعة (27/12/2019) خطبةٌ تتناول الشأن السياسي”(7).
وحسبي بهذا الموقف المُلفت للنظر والذي ينبغي أن يقف عنده الجميع، ولكنه مرّ مرور الكرام، وحسبوه مجرد امتعاض منها مما يجري من كوارث على الساحة العراقية.
- في خطبة جمعة كربلاء الأولى 27/12/2019 أوردت المرجعية العليا قول لأمير المؤمنين عليّ هو: “ولا تضعوا مَنْ رفَعَتْه التقوى، ولا ترفعوا مَنْ رفَعَتْه الدنيا..”. وعقبت بـ”أهلُ التّقوى الله تعالى رفعهم، وأنتم لا يحسُنُ منكم أن تضعوا مَنْ رفَعَه الله تبارك وتعالى” وأردفت: “ولا ترفعوا مَنْ رَفَعتْهُ الدنيا.. إنّ هذه رفعة دنيويّة، والرفعة الدنيويّة عادةً لا تتماشى مع واقع ما يريدُ الله تعالى..”(8).
فالصدود عن أخذ تحذيرات ونصائح وإرشادات المرجعية العليا هي عقوق لها وبمثابة وضعها وخفضها وقد رفعها الله تعالى بالتقوى والورع، في مقابل أخذ الآخرين من أناس اجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان وهي بمثابة رفع دنيوي لهم لا يتماشى مع ما يريده الله تعالى فضلا عما له مدخلية في إبقاء الناس على غيّهم.
- في خطبة جمعة كربلاء الثانية 27/12/2019 قالت المرجعية العليا: “ينبغي علينا في جميع مناحي الحياة أن نركن إلى أهل العقل وأهل الحكمة، وأن لا نتجاوز المشورة لأنّ تجاوزها يُفضي إلى الندامة”. لماذا؟ لأن: “ميزة أهل العقل والحكمة لا يعطون رأياً جزافاً, ولا يتعاملون مع انفعالاتٍ قد لا تحلّ الإشكال, وأنّهم يدرسون الأمر من جميع أطرافه, فإذا قرّروا ـ قرّروا بمقدارٍ يضمن لنا سلامة هذا القرار.. المشكلة ليست في أهل الحكمة والعقل، بل المشكلة في من لا يسمع أهل الحكمة والعقل، المشكلة أيضاً في من يدّعي أنّه من أهل العقل والحكمة.. المشكلة في من لا يسمع أو من يسمع ولا يطبّق”(9).
نجاح بيعي
——————————
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
——————————
الهوامش:
1) بيان رقم (12) خطبة جمعة كربلاء الثانية في (7 جمادى الأولى 1441هـ) الموافق لـ(3 كانون الثاني 2020م):
https://www.sistani.org/arabic/archive/26374/
ـ(2) من حديث للحاج (حامد الخفاف) مدير مكتب سماحة السيد (السيستاني) في لبنان:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26342/
ـ(3) بيان رقم (2) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 11/1/2019م
https://www.alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=462
ـ(4) بيان رقم (9) خطبة جمعة كربلاء الثانية 6/12/2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=471
ـ(5) في بيان رقم (10) خطبة جمعة كربلاء الثانية 13/12/2019م:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26366/
ـ(6) بيان رقم (11) خطبة جمعة كربلاء الثانية 20/12/2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=473
ـ(7)تصريح مصدر مسؤول في مكتب سماحة السيد دام ظلّه بشأن خطبة الجمعة 27/12/2019م:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26372/
ـ(8) و(9) خطبة جمعة كربلاء الأولى والثانية 27/12/2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=474
ـ(9) بيان رقم (5) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 8/11/2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=466
ـ(10) بيان رقم (6) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 15/11/2019م:
https://alkafeel.net//inspiredfriday/index.php?id=468
ـ(11) من حديث للحاج (حامد الخفاف) مدير مكتب سماحة السيد (السيستاني) في لبنان:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26342/
ـ(12) خطبة النصر ـ خطبة جمعة كربلاء الثانية في 15/12/2017م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=359
ـ(13) بيان رقم (2) خطبة خطبة جمعة كربلاء الثانية في11/10/2019م:
https://www.alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=462
ـ(14) بيان رقم (13) خطبة جمعة كربلاء الثانية في 10/1/2020م:
https://www.sistani.org/arabic/archive/26375/