شفقنا العراق-كانت النقطة الفاصلة في التحول الكبير ما حصل بعد حرب تموز/يوليو 2006، التي كانت تعبّر بمحتواها عن أولى مظاهر الانكفاء الأميركي، بعد الفشل في ولادة شرق أوسط جديد.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، وتفرّد الولايات المتحدة بالهيمنة على المسار الاقتصادي والسياسي والعسكري، تشكَّل نظام جديد ونادر في التاريخ البشري، أساسه القطبية الواحدة، بديلاً من قوى التدافع المتوازنة، وترك آثاره البالغة في القضية المركزية ذات الرمزية العالية، نظراً إلى حجم تغوّل النظام الرأسمالي العالمي، وذهابه نحو التوحّش بالحروب المدمّرة والمتنقّلة في كل القارات، لضمان استمرار النهب، ومنع تشكل قوى دوليّة وإقليميّة مهدّدة له، ما أدى إلى انتكاسات كبيرة على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي لصالح “إسرائيل”، التي تحوّلت إلى بوابة لكل الدول الساعية إلى الدخول في نادي العولمة الاقتصادية ذي المنحى الليبرالي، ما دفع القيادة الفلسطينية إلى تقديم تنازلات كبيرة على مستوى القضية المركزية، توهّماً بإنجاز ما يستطيع تحقيق كيانية فلسطينية، ولو كانت غير قابلة للحياة.
وترافق ذلك مع مسار متصاعد من مسيرة عربية ساعية إلى تحقيق الإطار الأمني المحيط بـ”إسرائيل” والضّروري لبقائها ضمن محيط واسع لم يستطع تقبّلها، ولا أفق لذلك.
لم ينقضِ أكثر من عقد ونصف العقد، حتى بدأت المؤشرات تتدفق حول تغيّر البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية. وسبقتها في ذلك مؤشرات واعدة من العمل المقاوم في جنوبي لبنان، أدت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب المحتلّ، ومن دون أي شروط، وإلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية.
وكانت النقطة الفاصلة في التحول الكبير ما حصل بعد حرب تموز/يوليو 2006، التي كانت تعبّر بمحتواها عن أولى مظاهر الانكفاء الأميركي، بعد الفشل في ولادة شرق أوسط جديد، وظيفته الحقيقية توفير قوس جغرافي واسع على حدود روسيا والصين، يبتلع إيران ذات الأهمية الجيوسياسية الفائقة في قارة آسيا بين القوى الصاعدة.
تغيّر التكتيك الإسرائيلي لتحقيق الهدف الاستراتيجيّ، بفعل نجاح المقاومة في لبنان وفلسطين في زعزعة اليقين الإسرائيلي بقدرته العسكرية الفائقة والقادرة على النيل من كل القوى العسكرية المحيطة بدولته، بل بقدرته على الردع من المحيط الأطلسي إلى الهضبة الإيرانية، ومن جورجيا وحتى قلب أفريقيا، ما أدى إلى اتباع سياسة بناء الجدران العازلة للمستوطنين في كل فلسطين، لتقيهم نتائج عمليات المقاومة العسكرية، وبالتالي تحقيق الحلم الاستراتيجي من الفرات إلى النيل.
يعتمد هذا الأمر على بناء منظومة القلعة والسور الفاصل عن المحيط، مع التمدد في المنطقة الفاصلة بين الفرات والنيل، باتباع السيطرة عليها، اعتماداً على قوى محلية تقوم بالتدمير الممنهج للبنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وإدخالها في صراعات لا تنتهي وقابلة للضبط بسياسات حكام القلعة.
ومن هنا أتت فكرة ضمّ الضفة الغربية، لتأمين المناطق الواقعة بين القلعة والسور، والاعتماد على العمق العربي الذي يعتقد أنه حليف حقيقي لـ”إسرائيل”، وأنها حليفة حقيقية له في مواجهة قوى إقليمية ذات بعد تاريخي في إقامة دول قوية وواسعة الحدود، وخصوصاً بعد أن اتضحت المخاطر على مستقبل الكيان، الذي يدرك أن استمراره في الوجود يرتبط بحسن أدائه للدور الوظيفي الذي تم تأسيسه لأجله، بالتخطيط والتنفيذ من قبل كل القوى الغربية التي هيمنت على مسار التاريخ العالمي، منذ أن غزا نابليون بونابرت مصر وحاول التمدد نحو بلاد الشام.
ورغم النجاحات الكبيرة التي حقَّقتها “إسرائيل” مع المنظومة الغربية بتدمير المنطقة العربية باستخدام الثورات الملونة والجماعات التكفيرية، فإن الهدف الأساسيّ المنشود لم يتحقق، وخصوصاً بعد أن استطاع محور طهران دمشق مواجهة المشروع التدميري على المدى الزمني الممتد بين منتصف آذار/مارس 2011 وحتى نهاية أيلول/سبتمبر 2015، ثم الدخول العسكري الروسي الذي جاء بدعوة من دمشق، وبالتعاون مع طهران، فقلب موازين القوى العسكرية إلى حد كبير، وأتاح الفرصة للمحور بأن يضع معادلات جديدة، تعتمد على إمكانية فتح جبهات عسكرية متعددة في آن واحد، من لبنان وفلسطين وسوريا والعراق وإيران واليمن.
كلّ ذلك رفع من الهواجس المتعلقة بإمكانية استمرار الوجود، وترافق مع انقسام أميركي واضح بين سياستين مختلفتين في تناول المسائل الخارجية والداخلية، مع تراجع كبير في قدرة الولايات المتحدة على فرض رؤيتها لما يجب أن يكون عليه العالم، وخصوصاً بعد أن استطاعت روسيا والصين وإيران مواجهتها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، بتكامل أدوار الأطراف الثلاثة، ليأتي بعدها انتشار وباء “كوفيد 19″، معرّياً للنظام الصحي الأميركي والكثير من الدول الأوروبية، وليشكل ضغوطاً اقتصادية هائلة عليها، ما ساهم كثيراً في زعزعة اليقينيات الإسرائيلية والغربية، وخصوصاً في كل من فرنسا وألمانيا وبقية الدول؛ دول الاتحاد الأوروبي، التي بدأت بالاعتراف بعدم إمكانية الوقوف طويلاً في وجه صعود القوى الجديدة، بما يسمح لها بتحقيق المشروعين الأوراسي والصيني، إضافة إلى مشروع محور طهران دمشق، الذي يعتبر الركن الثالث في هذا المثلث، والذي تأتي خطورته بامتداده الكبير من أفغانستان إلى البحر الأبيض المتوسط، وإلى مضيق باب المندب في البحر الأحمر، ثم إلى مضيق هرمز.
وقد ظهرت عدة مؤشرات على حجم القلق الأمريكي الإسرائيلي، ففي سابقة هي الأولى ذكرتها صحيفة “هآرتس”، دفعت تل أبيب واشنطن إلى مهاجمة محكمة الجنايات الدولية التي تريد فتح التحقيق في جرائم حرب ارتكبتها “إسرائيل”، وعجزت واشنطن عن فرض رؤيتها في جلسة مجلس الأمن التي عقدت بتاريخ 30 حزيران/يونيو، لتمديد الحظر على بيع وشراء السلاح لإيران، ووقوف دول الاتحاد الأوروبي في موقف المعارض لأول مرة.
كلّ ذلك شكّل جواً ضاغطاً على نتنياهو، ليجد مخرجاً من وعده للمستوطنين بأن يضم الضفة الغربية وغور الأردن إلى الأراضي المحتلة سابقاً، فالجميع أصبح يعلم أن هذا القرار، في حال تم تنفيذه، قد يشعل فتيل انفجار إقليمي كبير يبدأ من الضفة الغربية وغزة، لينتهي بتدخل عسكري مباشر من كل الجبهات الممتدة في غرب آسيا، بما لا يتيح لأية قوة دولية إمكانية التدخل، وخصوصاً بعد أن تحولت الحرب إلى مخرج وحيد للخروج من حالة الخنق الاقتصادي التي تتعرض لها بالتآزر مع قوى الداخل، وهو ما سيترك تداعياته على كل القوى الدولية، وخصوصاً إذا ما استطاع هذا المحور ربح الحرب، ما يجعله الرقم الأصعب في المعادلة الممتدة من شنغهاي وفلاديفوستوك في الشرق إلى لشبونة في الغرب، وهذا لا مصلحة به لكلّ القوى الدولية، فهل سيفعلها نتنياهو، ويتيح فرصة قد لا تتكرر لمشروع ما زال يحارب على كل الجبهات الخارجية والداخلية.
أحمد الدرزي/الميادين