خاص شفقنا العراق-كما جاء في مقال مدرسة النجف، يتمتع وكلاء مراجع الدين بوضع فريد في الهيكل التنظيمي لمؤسسة المرجعية. فهم الشخصيات الأكثر قربًا وموثوقية عندهم، فضلا عن كونهم سفراءهم ونموذجًا لنظرتهم إلى المجتمعات الشيعية. إن إحدى سمات وكلاء مراجع الدين هي القدرة العالية على مد جسور العلاقة مع مختلف الفئات الحوزوية والاجتماعية والثقافية، وإذا لزم الأمر، السياسية، مما يتطلب الكياسة والمهارة والدقة في السلوك والاهتمام بما يصدر منهم من تصرفات. كما يُتوقع منهم حُسن العشرة والاعتدال في الشخصية، وحُسن النظر، والرفق والوفق، والقدرة على وضع المبادرات والتأليف كما المعرفة الصحيحة باحتياجات الجمهور لتوسيع نطاق العلاقة والارتباط بين المرجعية وبين المجتمعات. والمأمول منهم أن يمتنعوا عن التدخل في السياسة وألا ينقلوا في بياناتهم الرسمية سوى آراء المرجعية ومواقفها.
لا يتم اختيار وكلاء لمراجع الدين لتنظيم شؤون الوجوهات الشرعية ودعم طلبة الحوزة الدينية في بلدانهم فقط. من المهم للغاية أن يكون لديهم معرفة كاملة بالاحتياجات الدينية لأهل البلد أو البلدان التي يقيمون فيها، وكذلك تنظيم العلاقات مع التيارات الشيعية المؤثرة فضلا عن التواصل مع المذاهب والأديان الأخرى ومع النخب والشخصيات الثقافية والعلمية. إن الرؤية طويلة المدى للاحتياجات المذهبية وللنهج التأسيسي تتمتع بمكانة إستراتيجية. فحيثما تؤسَّس قاعدة ومؤسسة دينية، إذا كانت قائمة على تقييم للاحتياجات والقرار السليم، فهي شتلة دائمة ستؤتي ثمارها على امتداد السنين، أما إذا لم تكن كذلك فهي على الأقل مضيعة لرأس المال وقد تسبب المشاكل والانقسام.
هنا لابد من الإشارة إلى نموذج بارز من وكلاء المرجعية، يمثل المدرسة الاعتدالية في النجف وقم، وقد حقق نجاحات فائقة في عمله، وهو الآن للأسف مصاب بكورونا. أتحدث عن حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد الشهرستاني الذي سمعت إشادة كبار العلماء به، فضلًا عن تجربتي الشخصية معه.
تتمثل أهم نقاط القوة والجوانب الشخصية عنده في التبصر والحكمة، والاستقطاب قدر الإمكان (على أساس الأخلاق، والتواضع، والثقة، وسعة الصدر، والحرية، والمروءة والسخاء)، وإعداد الكوادر مع التركيز على الشباب، وتجنب الحزبية بالرغم من التواصل مع مختلف الاتجاهات، والاعتدال الفكري والابتعاد عن التطرف، والارتكاز على الحوار بسعة صدر وبالتركيز على القواسم المشتركة، وانتهاج مقاربة تأسيسية مستقبلية. لقد تحول السيد الشهرستاني بفضل ذكاءه الاستراتيجي ومبادراته في بيئة مليئة بالتعقيدات والتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية، وقدراته وإنجازاته، إلى نموذج ونقطة تحول في المؤسسة المرجعية كما في تمثيلها.
هكذا تمكن السيد الشهرستاني من أن يكون ممثلاً جديرًا لمرجع الشيعة الأعلى سماحة آية الله السيستاني المشهور بحكمته، كما أصبح وبشكل مستقل رمزًا يشاد به في العلاقات الدينية والإنسانية والتأثير المدني دون الاعتماد على السلطة. علمًا أنه وقبل أن يتولى مسؤولية تمثيل المرجعية، حينما كان قبل 42 سنة في المنفى المزدوج بعد مهاجرته إلى إيران، قد اتخذ وبأقل الإمكانيات، خطوات مهمة مثل تأسيس مؤسسة آل البيت عليهم السلام بهدف إحياء التراث الشيعي، فباتت مصدرًا للكثير من الخدمات العظيمة.
أن تقدر مؤسسة تابعة للمرجعية على كسب مثل هذا الاحترام المتصاعد بين المجتمعات والأديان والطوائف والتيارات والشرائح والحكومات، فهو إنجاز وخطب جليل بالنسبة للمهتمين بالتشيع. يجسد مثل هذا النموذج وهذه الشعبية الحقيقية بين النخبة، ليس فقط قدوة ناجعة لتمثيل المرجعية وإنما للعديد من المجالات المدنية الأخرى، وسيكون لفترات طويلة نقطة تحول، ومثالًا خالدًا في مؤسسة المرجعية وعلماء الدين، ونموذجًا يستحق الدراسة في حقل العلاقات الثقافية والاجتماعية، كما أنه يبين لنا كيف يمكن لشخص أن يبرز لوحده كمؤسسة.
وإذ نشير إلى دور هذا الرجل العظيم وقيمه الوجودية، نسأل الله تعالى أن يلبس هذا السيد الجليل الذي نطلق عليه بفخر تسمية “خادم المذهب”، لباس العافية، كما ندعوه تعالى أن يشفي جميع مرضى كورونا في العالم.
الدكتور أبو الفضل فاتح (خريج جامعة أكسفورد وباحث في الشؤون الدینية والإعلامیة)