شفقنا العراق-من فوائد العزلة أنها يمكن أن تثبت لك إنسانيتك من عدمها، لكن ليس بأن تعتزل الناس بل تخالطهم، لأن اعتكاف البشر المحيطين بك، لا يمكن أن يوقظ إنسانيتك.
هذا ما دفعني للحديث مع (ص.ج) الذي يعمل عامل نظافة في إحدى دوائر الدولة العراقية، وله من العمر ٤٧، لكن بنيته تحوي بأنه قارب السبعين.
تحدث بتنهيدة حزينة، كأن جزءاً من روحه تخرج مع كل حرف ينطق به، كان مليئا بالمعاناة.. يعتصره الفقر وفاقة المعيشة، لا يعرف معنى الرغبات العادية للحياة أبدا.
بدأ بقص نضال سنوات عمره، والألم والحزن يعتصره.. ضاع شبابي بين التجنيد الإلزامي للنظام البعثي، وبين انتفاضة التسعينات، حتى بدأت أتخبط بين خناجر الحصار، التي قتلت كل أملٍ في داخلي، ولم تبصر زهرة حياتي أي شكل من أشكال الحياة، عانيت ألم الفقد أحياناً كثيرة، حتى تساقطت قواي مع تساقط آخر أوراق الخريف، حينها أصبحت ثملاً في طيات الجوع والفقر، حتى سقوط النظام الدكتاتوري في ٢٠٠٣.
عندها توقف وأشعل سيجارة وبدى كأن روحه تحترق وتخرج مع كل نفخة دخان، وأكمل قصة معاناته: كأن سقوط النظام الدكتاتوري هو بريق الأمل المنشود لنا نحن الفقراء، كنا نتوسم خيراً بتوفر العمل، كانت أقصى أحلامنا أن نجد عملا يوفر قوت يومنا.. أحلامنا بسيطة، دائماً ما نحلم على قدر بساطتنا.
ابتسامه ساخرة من الوضع الحالي، تلاها كلام بنبرة حزينة، كأنه يتيم قُتِلَ أبواه أمام عيناه.. لم أجد أي عمل أستطيع أن أسد به رمقي، حتى بدأت أصبح كالظل، وبدأت الناس لا تلاحظ وجودي في المكان، فالفقير في بلدي منبوذ يا صديقي.. بعد أن تقاسم الساسة كعكة وطني، والتهموا الأخضر واليابس فيه، عندها في نهاية قواي العمرية عند بلوغي الأربعين، استطعت أن أجد عقداً حكومياً بمبلغ ١٤٠ ألف دينار لإعالة نفسي وزوجتي.
هل تعلم يا صديقي أن كل ممتلكاتي عبارة عن ثلاث ملابس فقط، وإلى الآن ما زلت أتنقل من بيت إيجار إلى آخر، فأنا لا أملك شبرا في وطني.
بعد أن أكمل حكايته الحزينة، فهمت كم أن الحياة بائسة بعيوننا، وكم هي بسيطة رغم ألمها بأعينهم.. فهو مازال قنوع جداً بما يملك، لأنه عند كل وقفة في حكايته كان يردد، الحمد والشكر على ما أملك!
يبدوا أن الصراع من أجل المال والسلطة هو ديدن الحياة، ويمكن أن يكون هذا الصراع هداما أو عقيماً وهو الصراع الذي لا يؤدي إلى حل، كما يفعل ساستنا.. لكن هناك من هم خارج قوقعة هذا الصراع، لا يأملون سوى بلقمة عيشهم، فهم مازالوا مواطنين من الدرجة الثالثة.
محمد جواد الميالي
————————
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————