خاص شفقنا العراق-المركز في قم بإيران والفروع في لندن وبرلين وجاكرتا وموسكو ومدريد واسطنبول ومشهد والنجف وكربلاء ودمشق وبيروت وتبليسي، ومكاتب للعلاقات الدولية والتبليغ…تحمل جميعاً عنوان مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.
كلّ من يعرف المؤسّسة وحقيقتها يعلم أنّها اُنشئت للطباعة والنشر بادىء الأمر ثم نمت وازدهرت وتحوّلت لتحقيق مصنّفات علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام بأُسلوب جماعي مبتكر.. أصدرت بعدئذٍ مجلّة فصلية تعنى بشؤون التراث سمّتها “تراثنا”، وأضافت لهما على الانترنت “شبكة رافد للتنمية الثقافية”.
فالبعد الحقيقي والإنتاجي للمؤسّسة هو بعدٌ علمي تراثي، لكنّ المرجعية ولوازمها وتأثيراتها دفعت بهذه المؤسّسة المختصّة بالتحقيق إلى التمازج والاشتراك وربما الاندكاك بميادين وفضاءات ودروب المرجعية ولوازمها وعلاقاتها بشتّى المراكز والمحاور وصنوف الناس؛ حيث السيد جواد الشهرستاني مؤسّس المؤسّسة ورئيسها هو الوكيل العامّ لمرجعية السيستاني.
وإثر التلاحم والتلاقي في المهامّ والوظائف فقد عجن الشهرستانيُّ الأمرين في بوتقة واحدة، وصارت المؤسسة وكأنّها إحدى مراكز المرجعية، بل غدت بأعين الجمع محوراً من محاورها الشهيرة.
وبالنظر لخصائص السيد الشهرستاني المعروفة، فإنّه قد عمّق وشائج الترابط بين المسؤوليّتين وصهرهما بما يوفّر له أغلى فرصة ياقوتية لبلورة الغايات والآمال، فصارت المؤسّسة ذراع المرجعية، وصارت وكالة المرجعية ذراع المشاريع العملاقة الكبرى التي ما كادت تتحقّق لو بقي الحال على ماكان عليه في مثل زقاق ممتاز، حيث ذاك البناء المستأجر القديم، لمّا كانت المؤسسة تمارس عملها التحقيقي ولا غير، ولمّا كانت الضغوط بألوانها تنهال وتحاصر السيّد الشابّ الكربلائيّ المولد، النجفيّ الهوى، من كلّ حدبٍ وصوب ومسير.
شُيِّدت المجمّعات السكنية والمراكز الخدماتية والعلمية والثقافية والاجتماعية… وافتُتحت الفروع العديدة في مختلف بقاع الدنيا.. كلّها بفضل جهود الوكيل العام.
استقطب الشهرستاني وجذب وشاد وتنفّذ وهيمن وعمل بقوّة على تمتين حضوره الفاعل عبر القدرة الاقتصادية الفاعلة والدبلوماسية الآسرة والعلاقات الاجتماعية الواسعة، ولاشكّ أنّه السوسيولجيّ الحاذق والانثروبولوجيّ الماهر الذي يجيد أُصول العلاقات ويفهم ميزان الأفراد ونوع الحاجات.
مالت الناس له وشغل الخَلق والعباد بخُلقة الرفيع وتواجده الميداني النابض ومغناطيسه الساحر، فانجذبت له النخب والكوادر، الأساتذة والأفاضل، الأفندية والعمائم، ذوو البيوتات والأُسَر والمقام، الكتّاب والشعراء والأعلام، الكهول والشباب والفتيان، ولاسيّما وأنّه ميّالٌ بروحه النَّضِرة المُرْبِعة ووسامته المَلِحَة الخَضِلة إلى مدّ عرى المحبّة والصداقة والتواصل مع جميع الفئات والاتّجاهات، وخصّ جيل الناشئة بالرعاية والاهتمام؛ سعياً منه إلى تربيتهم وتدريبهم وتفعيل مواهبهم الكامنة الواعدة وتوظيف ماكنتهم الحيّة الناهدة في تحقيق الأهداف الرائدة، فاعتنى بهم عنايةً فائقة هي أشبه بالحلم بالنسبة لأقرانهم بل سائر الفئات، فوفّر لهم مقدّمات وسبل إدارة المراكز والمؤسّسات، وبسط لهم يد العطاء والتواصل مع المعاهد وبارز الشخصيات، ومنحهم اعتباراً ومنزلةً لاينالها إلّا ذوو الحظوظ العالية، رغم مؤهّلات بعضهم الفتيّة وخلفياتهم العلمية الأوّلية وتجاربهم الإدارية الابتدائية، ودفع بذلك غالياً ثمنَ الاعتناء بهم وتأهيلهم للمهامّ الصعبة والصراع العسير، فأبلوا بلاءً حسناً في تنفيذ توصياته وإطاعة أوامره إطاعةً قلّ لها نظير.. وبدوره لم يكترث بسخط وانتقاد وهجمات العديد من الجهات والأفراد؛ لاعتقاده الراسخ بحاجة الظرف إلى قوىً حيّة ودماءٍ جديدة تُحدث التغيير الملموس وتحقّق المراد والمطلوب.
ومهما قيل ويقال فالشهرستاني ذو مبنى ومنهج ليس بالضرورة أن يتّفق به مع هذا أويختلف مع ذاك، بل كلّ مايهمّه هو بلوغ المرام والمقاصد بعد تذليل الصعاب ورفع الحواجز.
وسواء تضاءل أو انعدم تواجد بعض الأعلام والأفاضل في أروقة المؤسّسة والمراكز التابعة نتيجة هذه الملاحظة وتلك، فالبدائل حاضرة باستمرار؛ إثر الإدارة الفذّة والاستقطاب الساحر.
إلى ذلك: فالشهرستاني ذو ثقةٍ فائقةٍ بالنفس، قلّ نظيرها أو يندر توفّرها في الآخرين، وهذا ماجعله يدبّ الخطى بعزمٍ وحزمٍ وثباتٍ نحو تحقيق شامخ المهمّات.. وللحقّ فقد ترك الشهرستاني ولازال يترك أرقى بصمات الإدارة والتواصل والخدمة والإعمار في شتّى الأمصار والأقطار رغم كلّ ما قيل ويقال، ورغم الملاحظات والإشكالات التي ترد من هنا وهناك؛ فالعصمة والكمال للّه الواحد المتعال.
الشهرستانيُّ ظاهرةٌ جديرةٌ بالبحث والدراسة والتحليل طبق المنهج العلميّ السليم والاستدلال الحياديّ القويم.
كريم الأنصاري