شفقنا العراق-بعد التّصريح المُفاجِئ والمُستفز الذي أدلى به الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب قبل بضعَة أسابيع وكشف فيه عن احتِفاظ بلاده بوجود قوّاتها في العِراق بهدف مُراقبة إيران، تزايَدت زيارات المَسؤولين الأمريكيّين السريّة لبغداد، مِثلما تزايدت في الوَقت نفسه الأنباء عن عزم واشنطن إقامَة المزيد من القواعد الأمريكيّة البريّة والجويّة.
أحدث الزّائرين لبغداد باتريك شاناهان وزير الدّفاع الأمريكيّ بالنّيابة الذي اجتَمع بالسيّد عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقيّ، وعدد من مُستشاريه العسكريّين أمس، ولم يكشف عن طبيعة هذه الزيارة السريّة، ولكن التّصريح الذي أدلى به السيد عبد المهدي وقال فيه إنّ حُكومته تُريد إقامة علاقات جيّدة مع أمريكا وإيران في الوقت نفسه، والحِفاظ على سيادتها الوطنيّة يُؤكّد مَخاوفنا السّابق ذكرها.
لا نعرف كيف سيُطبّق السيد عبد المهدي مُعادلته هذه، أيّ الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع أكبر عدوّين، أمريكا وإيران، حيث تُحاصر الأُولى الثّانية، وتَحشِد لإقامة تحالف عسكريّ عربيّ إسرائيليّ غربيّ لشن عُدوان عليها، فالسيد عبد المهدي يُحاول أن يجمع بين الزّيت والنار في إناءٍ واحِدٍ.
أحدث التّسريبات القادِمة من العراق تقول إنّ الإدارة الأمريكيّة تُريد إقامة قاعدة عسكريّة جديدة، بأسلحة مُتطوّرة، وأجهزة مراقبة مُتقدّمة جدًّا، في المُثلّث الحدوديّ العراقيّ السوريّ الأُردنيّ، غرب الأنبار، ونقل القوّات الأمريكيّة المُنسَحبة مِن سورية إليها، الأمر الذي يكشِف عن مُخطّط لإثارة فتنة طائفيّة سنيّة شيعيّة في العِراق.
بدايةً وقبل شرح بعض التفاصيل، لا بُد من التّذكير بأنّ التواجد العسكريّ الأمريكيّ في العِراق محكوم بمُعاهدة أمريكيّة عراقيّة جرى توقيعها عام 2010، وبهذا يُعتبر الجِنرال شاناهان وجود القوات الأمريكيّة في العِراق يتّسم بالشرعيّة، ولكنّه لا يعلم، أو يتجاهل وجود تحرّك قويّ في البرلمان العراقيّ حاليًّا يتجسّد من خِلال مشروع قانون يُطالب بإلغاء هذه المُعاهدة، ونزع الشرعيّة عن هذا الوجود الأمريكيّ المُنتَهك للسّيادة، ومن أبرز الدّاعمين لهذه الخُطوة، أي مشروع القانون، السيد محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان المُنتخب، والكُتلتان الرئيسيّتان في البرلمان.
الإدارة الأمريكيّة تذرّعت بأنّ وجود قوّاتها في العراق كان بهدف مُحاربة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” أو “داعش” وإنهاء وجوده في العراق وسورية، ولكن هذه الذّريعة انتَفت بإعلان الرئيس ترامب رسميًّا هزيمة هذا التّنظيم، واستخدام هذا النّصر لتبرير سحب قوّاته (2000 جندي) من سورية، فلماذا لا تنطبِق القاعدة نفسها على العِراق؟ ولماذا تبقَى هذه القُوّات الأمريكيّة على أرضِه؟ ولماذا تَبنِي أمريكا قواعِد بريّة وجويّة جديدة؟
أمريكا وباختِصارٍ شديدٍ تُريد تحويل العِراق كله إلى ساحة حرب ضد إيران، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وليس إلى قاعدة مُراقبة فقط، مِثلما قال الرئيس ترامب، الأمر الذي يُهدّد بشكلٍ جديّ استقرار العِراق ووحدتيه الترابيّة والديمغرافيّة، واستِشهاد مِئات الآلاف، وربّما الملايين من مُواطنيه من مُختلف المَذاهب والأعراق من جرّائها، وهو الذي يتعافى مِن مآسي الحُروب السابقة.
نُدرك جيّدًا في هذه الصحيفة “رأي اليوم” أنّ هُناك حُلفاء لأمريكا في العِراق يكنون العداء لإيران، بعضهم لأسباب طائفيّة والبعض الآخر لأسبابٍ سياسيّة، ولكن حُلفاء إيران في المُقابل أضخم عددًا وأكثر فاعليّة، ومثلما وقفت أمريكا مع أبناء الطائفة الشيعيّة ووظّفت “مظالمهم” في التّمهيد لغزوها للعِراق واحتلاله عام 2003، فإنّها من غير المُستبعد أن تُوظّف حاليًّا “مظالم” بعض السنة من العرب والأكراد لتثبيت وجودها في العراق، وتحويله إلى قاعدة لحربها المُفتَرضة ضد إيران، وذريعة لغزوها، وما يجعلنا نذهب إلى هذه الفريضة تحذير أحد أبرز أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيّ من الدّور الذي يلعبه حاليًّا جون بولتون لإطلاق هذا الغزو.
أمريكا تُطبّق مُخَطّطًا إسرائيليًّا يُريد إضعاف العراق وتقسيمه وتفتيته وكل دول محور المُقاومة، وعدم السّماح له بالاستِقرار والتّعافي، وتبحث الآن عن الذرائع، ولا نستبعِد تسليح بعض الجهات المُعارضة لإيران في العِراق مجددًا وإشعال فتيل الحرب الأهليّة في إطار هذا المُخطّط.
العراق تغيّر كثيرًا، ومنذ توقيع مُعاهدة تنظيم الوجود الأمريكيّ عام 2010، أي قبل عشرة أعوام تقريبًا، بدأ العراق يتعافى، وبات النّفوذ الإيرانيّ على أرضه أكثر قوّة وصلابة بفضل التدخّل الأمريكيّ، والأهم من كُل ذلك أن هُناك 60 فصيلًا مُسلّحًا ومُدرّبًا بشكلٍ جيّد تحت مِظلّة الحشد الشعبيّ، ومجموع تِعداد مُقاتليها أكثر من 140 ألفًا من المُقاتلين الأشدّاء، ومُعظم هذه الفصائل، إن لم يكُن كلها، حصلت على سلاحها وتدريبها من إيران، وشارَكت بفاعليّة في الحرب ضِد “داعش”.
أمريكا أخطأت بغزوها للعِراق واحتِلاله وخسِرت باعتراف الرئيس ترامب نفسه حواليّ ستّة تريليونات دولار، وانسَحبت منه مهزومةً، تمامًا مِثلَما انسحبت جُزئيًّا، تستجدي “الطالبان” لانسِحاب كُلّي آمِن حاليًّا من أفغانستان.
أخطر ورقة في يَد أمريكا وإسرائيل هي الورقة الطائفيّة، وهُناك مَن يدفع باتُجاه حرب بين السنّة والشيعة في العِراق بدعمٍ أمريكيٍّ، ويَجِد أنصارًا في الدّاخل والخارِج، وعدم الوعي بهذا المُخطّط سيَعني انتِقال الحرب من سورية إلى العِراق، وفق نظريّة أحجار الدّومينو.. واللهُ أعلَم.
المصدر: رأي اليوم