شفقنا العراق-لو تصفحنا صفحات التاريخ العراقي في اواسط القرن الماضي، لتوصلنا الى انه من اكثر البلدان استقرارا على الصعيد الخارجي قياسا لدول منطقته وأشقائه العرب، فالعراق كان منشغل بمشكلاته السياسية الداخلية فقط.
فلو كان العرب قد انشغلوا وتأثروا بالصراع العربي – الصهيوني نتيجة وحدة الجغرافيا في سوريا والارن وفلسطين ولبنان ومصر، الا ان العراق يحسب على انه دولة خليجية وبعيد عن جغرافيا هذه دول، الا انه مع هذا كله كان وما زال من اكثر الدول العربية والاسلامية الذي تبنى القضايا العربية الاسلامية وخاصة القضية الفلسطينية.
هذا الامر لم يكن وليد ومجرد موقف سياسي اتخذه العراق من حقب القرن الماضي، انما جاء من ارث ثقافي تربى عليه الشعب العراقي نتيجة ارتباطه الوثيق بثقافته الاسلامية التي حثته على محاربة الظلم وبذل الارواح والعيال في سبيل احقاق الحق.
لذا فمن الطبيعي ان يكون العراق مشاركا ومؤازرا لكل القضايا العربية، ومن الطبيعي ان يسير جنوده المسافات الطويلة من اجل نصرة اخوانه العرب في اي صدام مسلح ضد الكيان الصهيوني.
ورغم بعد الكيان الصهيوني جغرافيا عن العراق، الا ان احدى المفارقات التاريخية الغريبة، بان امريكا وكيانها الصهيوني المدلل كانالا يخشيان الدول العربية بقدر خشيتهما من العراق، فكل صداماتهما العسكرية مع العرب كانت بكفة والعراق عندهم في كفة اخرى، وهذا الامر كان باعتراف مهندس السياسة الامريكية في الشرق الاوسط العجوز هنري كيسنجر.
ففي ابان حرب تشرين عام 1973 التي وقعت بين مصر وسورية بمعاونة العراق من جهة والكيان الصهيوني من جهة اخرى وبعد ان تحركت القضية الفلسطينية وعادت الى الواجهة من جديد ونتيجة للتفوق العربي على الصهاينة وقرار وقف اطلاق النار الرقم 338 الذي تم بين الاطراف اعلاه عقدت مفاوضات طويلة بين الكيان ومصر في منطقة سميت بالخيمة 101 في صحراء سيناء والتي تمت فيها عملية فصل القوات المشتبكة.
كان رائد وقائد المفاوضات والوسيط بين الاطراف وزير خارجية امريكا انذاك هنري كيسنجر الذي عقد بعد انتهاء المفاوضات مؤتمرا صحافيا بحضور اغلب وكالات الانباء العالمية.
وتقدمت صحفية المانية لكيسنجر، انه بعد استتباب الامن بين الاطراف وعقد اتفاق اولي للسلام بينكم من الذي تخشون منه مستقبلا ؟ اجاب الوزير الاميركي انهم يخشون من العراق حصرا .
وهنا استغربت الصحفية وقالت العراق دولة متخلفة ولاتجرا على خوض حروب بسبب تسليحها البسيط وجيشها الفقير فهم لا يمتلكون صاروخا يبعد عشرة كيلومترات فكيف الخوف منهم ؟
اجابها كيسنجر قائلا “نحن لا نخشى من السلاح العراقي ولكننا نخشى من الشعب العراقي الذي يطيع ويخضع بصورة عمياء لامرين هما المرجعية الدينية في النجف وموقفها واضح وهو بالضد من وجود اسرائيل كدولة ولا تقبل بتهجير الفلسطينيين وتدعو الى عودة الاراضي الفلسطينية لاهلها واخراج اليهود”.
واضاف، ان “الشعب العراقي يتبع المرجعية القبلية ففي العراق قبائل تؤمن بوحدة النسيج العراقي وهي سبب تماسكه طول الوقت وهذا ايضا سبب خوفنا منه”.
هنا سالت الصحفية وما العمل وكيف ستبعدون هذا الخطر ؟
اجابها كيسنجر ” نحن جادون في ذلك وستكون الايام القادمة حبلى بالنتائج الجيدة لنا”.
اذن ان الاجندة الامريكية التي تستهدف العراق لم تكن وليدة اللحظة، ولم تكن بالصدفة، ولم تكن على خلفية سياسة صدام الرعناء، انما كان امرا قائما لابد من تنفيذه منذ سبعينيات القرن الماضي (كما اعترف كيسنجر) الى يومنا هذا .
بنفس الوقت ، يمكن ان يقال ان كيسنجر والامريكان بصورة عامة كانوا قارئين جيدين للعراق.. بالفعل ان الشعب العراقي يملك ارتباطا روحيا بمرجعيته الدينية ، ويعتز بجذوره وتاريخي العشائري، وهذان العاملان هما من حددا شخصية الشعب العراقي.
لكن اذا كان كيسنجر قد نجح في استقراء واقع الشعب العراقي وخطط لمستقبله المظلم، الا ان بلاده فشلت في مقاومة ارادة هذا الشعب العظيم.
فاذا كانت امريكا تعتبر ان احتلالها للعراق عام 2003 هو نجاح بحد ذاته ، الا ان هذا النجاح لن يستمر وسيبقى عرضة للفشل بشكل ربما سيفقدها كافة امتيازاتها التي حصلت عليها في الشرق الاوسط نتيجة هذا الاحتلال، ولنفس الاسباب التي تتخوف منها امريكا ، وهي المرجعية الدينية ، واللحمة العشائرية.
لكن امريكا بكل ما تحمله من امكانيات وعقليات تخطط لمستقبلها ولمستقل الشعوب المستضعفة، كانت في غاية الغباء عندما لم تستفد من تجربة بريطانيا في العراق، وكيف استطاعت المرجعية الدينية والعشائر المطيعة لامرها ان تطرد البريطانيين شر طردة من العراق، بدليل ان جيشها الجرار تعرض لنفس هذه الطردة نتيجة الموقف البطولي للمرجعية الدينية المجاهدة وقوى المقاومة العراقية البطلة .
محمود المفرجي الحسيني
————————-
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————-