خاص شفقنا-بيروت-لا يخفى تاريخياً ما لعلماء جبل عامل من الدور المجيد في حفظ تراث أهل البيت عليهم السلام وترويج مذهبهم على مر العصور، فإنهم رغم قلة عددهم بالنسبة إلى مجمل علماء المذهب من العرب والعجم كان لهم حضور فعال في نشر التشيع خارج دائرة بلدهم خصوصا في بلاد فارس، وقد أغنوا المكتبة الشيعية بمصنفاتهم في مختلف أنواع العلوم الدينية من الفقه والأصول والحديث والعقائد وغير ذلك، بل إن جملة من مصنفاتهم باتت مما لا يستغني عنها فقيه في مكتبته.وقد انتشرت في ربوع جبل عامل الكثير من المدارس الدينية في الماضي والحاضر، وتخرج منها جمّع من العلماء المجتهدين الأفذاذ.
ودأب الكثيرون منهم على الهجرة إلى النجف الأشرف الحاضرة العلمية الأم التي أسسها الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) بعد هجرته إليها منذ ما يزيد على الألف سنة، حتى صارت مركزا للتشيع وللمرجعية الدينية يؤمها أهل العلم من مختلف البلدان يخوضون غمار العلم متباركين بجوار باب مدينة علم النبي (ص) أمير المؤمنين عليه السلام.
وانتشرت في النجف تبعا لذلك المدارس الدينية المختلفة للعرب والإيرانيين وغيرهم التي يأوي إليها الطلبة الوافدون كل إلى من يخصه ويتعهد شؤونه ويرتب أموره لينطلق بعد ذلك في مسيرته العلمية والدرس والتدريس.
العامليون الوافدون الى النجف الاشرف ومعاناتهم
إلا أنه لم يعهد فيما سبق لأهل جبل عامل مدرسة خاصة بهم في النجف تجمع شملهم وتلم شعثهم ولم يكن للعامليّ الوافد إلى النجف خصوصا صغير السن مدرسة ينزل فيها بل كان لا بد له من أن ينزل ضيفا على بعض أقاربه ومعارفه من العامليين ممن سبقوا إلى النجف واستقر بهم المقام فيعهد به وليه إلى بعض هؤلاء ليستقبله ويتولى رعايته ويرتب شؤونه الدراسية والحياتية ويكون شبه المسؤول عن توجيهه في حياته العلمية والأخلاقية والمادية، فكثيرا ما كان يسكنه في بيته ضيفا قد تطول إقامته ريثما يرتب أمره في بعض المدارس المعدة لغير العامليين، ثم إن تم له ذلك قد يجد نفسه غريبا عن أبناء وطنه مقيداً، مهملاً من قبل الغير،فيواجه المصاعب والمتاعب والأعراض والأمراض والفقر والحرمان وحيدا غريبا، وكثيراً ما يؤثر ذلك على مسيرته العلمية والحياتية وربما اضطرت تلك الظروف البعض للعدول عن مقصده والرجوع إلى بلده دون نيل مراده.
ومن هنا كان علاج كل هذه المشاكل او جلّها مفتاحه حل مشكلة المكان وإيجاد مجمع للعامليين، ومدرسة تشرع أبوابها للوافدين منهم بلا انتظار ولا مقدمات ولا منّة، فتسهل الطريق أمامهم، فيتوفر للطالب فيها المأوى ويجد حوله من يرعى أحواله، فيشرف الكبير منهم على الصغير، ويتفقد الموسر المعسر، ولا يحرم المتعلم نصيحة العالم وتوجيهه في دراسته، ولا يُهمل المريض ولا يجوع المحروم ولا ينحرف الطالب لضياعه.
ومن هنا يتضح أن المدرسة الدينية وإن كانت معدة للسكن فقط إلا أن الغاية منها أوسع من ذلك بكثير ألا وهي تربية أجيال الطلبة الوافدين علمياً وأخلاقياً وروحياً. ويبدو أن عدم وجود مدرسة للعامليين خاصة بهم مرجعه إلى قلة عددهم نسبياً وإلى الفقر المادي العام وفي بلاد جبل عامل، خصوصا في فترة الحرب العالمية الأولى والثانية، حتى إن من يتوجه لطلب العلم يوطن نفسه على الفقر ولا يجد معينا سوى ما يرفده به أهله وذووه على فقرهم، ولا يوجد من قبل المرجعية في النجف رعاية مادية إلا بأقل من الحد الأدنى وهو أرغفة من الخبز يوميا.
فكرة تأسيس المدرسة العاملية في النجف
وكان المؤسس المقدس الشيخ محمد تقي الفقيه قد وفد على النجف في تلك الظروف الصعبة وعانى مع أقرانه العامليين كل تلك المصاعب والمتاعب ووصل اشتداد الحال في تلك الآونة إلى أن تدنى عدد الوافدين إلى النجف لطلب العلم فكان منتهى عددهم سبعة عشر طالبا جلهم من القدماء وليس فيهم من الأحداث سوى ثلاثة طلاب، فيما كان يربو عددهم على السبعين فيما سبق، كلما غادر فوج النجف عائدا إلى بلاده خلفه فوج من المهاجرين بنسب متقاربة – كما ذكر قدس سره في بعض مذكراته-.
ومن رحِم تلك المعاناة وشعورا منه بالمسؤولية عمل جاهدا على إنشاء مشروع يحث على إيفاد الطلاب في النجف ودعمهم ومساعدتهم عبر إنشاء (جمعية التعاون العلمي الديني) سنة 1368 هجرية،وبقيت المعضلة الأهم والأصعب ألا وهي تأسيس مدرسة للعامليين في النجف وقد عاد عددهم للازدياد. وسنحت الفرصة، بعد نضج الفكرة للسعي لإنشاء المشروع لمناسبة تعرض لها قدس سره مفصلا في بعض ما ذكره من المذكرات، فبدأ التحرك في سنة 1375 هـ، فدعا العامليين عامة للاجتماع وطرح عليهم ما أزمع عليه من الأمر رغم كونه من طلب شبه المحال، وطلب منهم مؤازرته على ذلك.
قال قدس سره في مذكراته: “… وبلغ الخبر جملة من العامليين في تلك الليلة وقريب من منتصف الليل جاءني العلامة الشيخ حسن العسيلي والعلامة السيد عبد الكريم نور الدين النباطي وثالث لا أتخطره فعلاً ولعله الشيخ عبد الحسين نعمة العاملي جاؤوني يستكشفون الغاية، فحاولت الكتمان مخافة أن يثنوا عزمي عما أحاوله، وأخيرا كشفت لهم عن صريح الرأي…”.
وقال بعد ذلك: “… لقد كلفنا جماعة بوضع منشور يُعرب عن ملخص الفكرة وهم الأفاضل السيد محمد علي الأمين والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ سليمان اليحفوفي … وقدموا نسخة من المنشور الذي أجمعوا عليه لآية الله السيد محسن الحكيم قدس سره وأظهر الرغبة والتأييد وأثنى على العامليين ثناء حسنا إلى أن قال: إنهم موضع الأمل.
وتناهى خبر المشروع إلى اللبنانيين المهاجرين في الكويت فأبدوا رغبتهم التامة تجاهه، وتطوع جملة منهم ممن يعمل في البناء للتبرع بالعمل… وحصلت بعض الظروف أعاقت عمليات التبرع من الكويت، وهي حصول الزلزال المدمر في لبنان…”. وكان أن عزم الشيخ الوالد على تبني المشروع مستقلاً بإمكانياته المادية والمعنوية متوكلا على الله سبحانه.
حجر الاساس وانطلاق المشروع
وقد تم وضع حجر الأساس بعد الحصول على الأرض المناسبة في حي الجديدة مساحتها 1515 مترا، وكانت الخطة التي اتبعت في البناء أن يكون المبنى أقساما مستقلة عن بعضها بحيث يكون العمل تدريجيا تبعا للإمكانات المادية ويمكن الاستفادة عمليا من القسم الذي ينجز في ظرف الاستطراد في بناء غيره من الأقسام بلا مزاحمة للطلاب الساكنين فعلاً.
وكان التصميم الهندسي مشتملاً على ستة أجنحة، كل جناح مؤلف مما يقرب من ثمانية غرف ومرافق وحمامات ودرج وصالة. وقد أنجز في المرحلة الأولى جناحان يحويان سبع عشرة غرفة مع لوازمها، وبعد بضع سنوات من ذلك تم الشروع ببناء جناح ثالث يحتوي على ثلاث وعشرين غرفة مع لوازمها، ولم يتم بناؤها لعدم وجود التمويل.
وضاقت الغرف بالطلاب من لبنانيين مع قليل من غيرهم من سوريين وعراقيين، ولم يبقَ مجال لاستقبال المزيد من الطلبة. فكان أن سعى العلامة الحجة الشيخ حسن العسيلي بجمع التبرعات وأتم العمل في الجناح الجديد وذلك بعد قرابة عشر سنوات من إنشاء المشروع.
وهكذا استمرت هذه المدرسة مجمعا للطلبة العامليين ومنتدى لهم يقيمون فيها المناسبات الدينية عاشوراء وغيرها، وتُشَيّع منها الجنائز المنقولة من لبنان لتُدفن في وادي السلام، وقد ينزل فيها الزوار اللبنانيون في بعض الحالات.
وجعل المؤسس قدس سره الولاية على هذه المدرسة لنفسه ولمن يوليه من قبله في حياته وجعل الولاية من بعده للمتقدم من العامليين في السن والعقل والهجرة والفضل والتقوى في الجملة وتفصيل ذلك في نص الوقفية، وكان يعهد بإدارتها لفضلاء العامليين مداورة ففي بداية تأسيسها سلم الادارة لثلاثة: آية الله المقدس الشيخ محمد مهدي شمس الدين وآية الله المقدس الشيخ حسن العسيلي والمقدس الحجة السيد عبد المحسن فضل الله ثم ولاها الحجة المقدس الشيخ سليمان اليحفوفي، ثم آية الله الحجة السيد علي مكي والحجة السيد عبد الكريم نور الدين مرتضى وآية الله المقدس الشيخ مفيد الفقيه الذي كان آخر من بقي في النجف وبقيت ولايتها وادارتها بيده الى أن توفي رحمه الله إبان تجديد بنائها الاخير.
المدرسة في عهد النظام السابق
ودامت الحركة العلمية والاجتماعية مزدهرة فيها إلى أواخر السبعينات من القرن الماضي حيث ضيق الحكم البعثي الجائر الخناق على حوزة النجف بشكل عام وعلى اللبنانيين من جملتهم، فتم إلقاء القبض على الطلبة الجدد المقيمين في المدرسة اللبنانية وغيرها من المدارس وتسفيرهم، وكذلك رُحِّل جملة من المتزوجين المقيمين في بيوت مستقلة.
ثم وقعت الحرب العراقية الإيرانية المشؤومة أول الثمانينات ورَحَل جلّ العامليين تباعا حتى لم يبق إلا بضع عشرة عائلة منهم بعدما كان يزيد عددهم على المائة. وأصبحت المدرسة العاملية خاوية موحشة إلا من آحاد ممن نجا من التسفير، وكان هذا حال سائر المدارس في النجف.
وانتهت الحرب العراقية الإيرانية نهاية الثمانينات، وتلتها حرب الخليج والإحتلال الأمريكي والفوضى الهمجية لما زاد عن عشر سنوات أخرى، وخلت المدرسة في هذه الفترة من العامليين كلياً، وسكنها جملة من الطلبة العراقيين بعد أن تم الإستئذان من المتولي الشرعي حينها المقدس الشيخ مفيد الفقيه.
العامليون ومعاناة العودة
وبدأ الاستقرار الأمني يعود تدريجياً إلى العراق والنجف، واجتهدت المرجعية الدينية في تنشيط الحركة العلمية وإعادة الحياة إلى الحوزة النجفية، رغم الوضع الحذر بداية، فانتقل اليها من قم المقدسة جملة من اهل العلم العراقيين والخليجيين ولكن لم يسجل عودة العامليين، وهذا أمر لاحظته المرجعية فكان آية الله السيد السيستاني وآية الله السيد الحكيم وغيرهما يستحثون أهل العلم العامليين للوفود الى النجف ليجددوا سابق عهدهم من الحضور العلمي الفعال فيها.
وواقع الحال أن كثيرا من الطلبة الذين تأسسوا في حوزات لبنان أو قم المقدسة كانوا يتطلعون بحنين إلى متابعة الدراسة في النجف، هو الحنين إلى الأصل موطن سلالة أساتذتهم، بل إن ذلك كان حاجة ضرورية لمن يطمح منهم بالوصول إلى عتبة الإجتهاد، إلا أن المعوق عن الوفود هو عدم توفر الإمكانات المادية وأهمها بالنسبة للمتزوجين السكن العالي الكلفة، ففي سنة 2010 م، لم يكن قد وفد إلى النجف سوى ثلاثة من اللبنانيين، وقد تزايد العدد ببطء بعد ذلك، فلا يَرِدُ النجف إلا من بُذل له السكن في أحد بيوت اللبنانيين القدامى، أو أمكنته ظروفه من الاستيجار.
وأما الطلبة العزاب فكانوا ينزلون في المدرسة اللبنانية التي كان يقيم فيها عدد من الطلبة العراقيين. وقد أوكل المقدس الشيخ مفيد الفقيه (رحمه الله) تولي شؤونها وإدارتها إلى ولدي الشيخ أحمد الفقيه الذي كان في طليعة من وفد إلى النجف حينذاك.
تجديد البناء
ولكنّ بناءها كان بحاجة إلى ترميم وإعادة تأهيل وتجهيز، رغم انه كان ينالها حظ من الصيانة دوريا كل عدة سنوات في العقود الماضية، لكن ذلك لم يعد يجدي، و”هل يصلح العطار ما أفسد الدهر”. وكان الأصلح والأجدى هدم البناء كليا واستحداث بناء جديد يتناسب مع الحاجة الفعلية وأهمها ملاحظة مساكن للطلبة المتزوجين. فإن الطريقة المعهودة في المدارس الدينية في النجف عموما هي أن تكون جهة وقفيتها التدريس، والسكن للمجردين العزاب فقط.والمدرسة اللبنانية وإن كانت وقفيتها كذلك إلا أن ثلث العقار الذي أقيمت عليه كان له وقفية مستقلة موسعة الصلاحية، وكان يستخدم سابقا كحديقة لا بناء عليها، فصار التفكير أن يخصص هذا الجزء من العقار لبناء ذي طبقات، الأرضي منها يجعل محلات تجارية يعود ريعها للمدرسة وما فوقه من الطبقات يجعل شققا متعددة لسكنى المتزوجين وباقي العقار يبنى على ما يناسب وقفيته، فيجعل منه قاعة كبيرة للمناسبات وساحة متوسطة تحيط بها الغرف السكنية بالإضافة إلى الإدارة والمرافق اللازمة من المطبخ والمطعم والحمامات…
سيتم نشر الجزء الثاني من “النجف الأشرف الحاضرة العلمية الأم لعلماء الشيعة_ تاريخ المدرسة العامليّة ” لاحقا
ويتضمن مجموعة عناوين ابرزها مقابلة مع سماحة الشيخ محمد صالح الفقيه نجل الشيخ محمد تقي الفقيه حول مراحل البناء” و “دور المرجعية والاوقاف”، واستعادة المشروع”.
الجزء الاول