خاص شفقنا-بيروت-لم تعد زيارة الأربعين تقتصر على الزيارة للأضرحة المشرفة فقط، بل تعدتها لأن تصبح محجة للقلوب وتسابق للخدمة، فعلى طول خط مسير المشاية من النجف إلى كربلاء او من كافة المحافظات التي يسير أهلها على الأقدام نحو قبلة الأحرار ومرقد الاطهار، تنتشر مواكب الخدام الحسينيين الذي يجمعون طيلة العام أموالا تختزن خصيصا لهذه الأيام، ليتشرفوا ببذلها على زوار المولى أبو عبد الله الحسين ع.
معاناة الركب الحسيني خلال مسير السبي
هذه المسيرة الراجلة لم تحدث صدفة وبدون تخطيط، بل إن التتبع التاريخي لها يشهد بأنها انطلقت منذ زمان أهل البيت “صلوات الله عليهم” بعد استشهاد الإمام الحسين “ع” بفترة وجيزة، وكان الراجلون الحفاة أفرادًا قلائل من أنحاء الكوفة وأريافها، لكنها توسعت بمرأى ومسمع من الأئمة الطاهرين ” صلوات الله عليهم ” وحظيت منهم بالإمضاء والدعم.
وصحيح أن السبي لم يكن بإختيار أهل البيت عليهم السلام ، ولكن الإمام الحسين (ع) لما اصطحب معه النساء والأطفال فهو يعلم بما سيجري عليهم من السبي لذلك قال : – ( شاء الله أن يراهن سبايا )، وكانت مسيرة السبي مليئة بالمعاناة فهناك نساء العترة تُسبى وعلى نياق هُزّل ،ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، هذا تحمل لأصعب المعاناة من نساء أهل البيت عليهم السلام الذي لم يكن الرجل الأجنبي ليرى خيالهن، وقد أُخذت سبايا من بلد إلى بلد.
رحلة مريرة، وأيام عسرة، فسبي أوله رؤوس على الرماح، وأوسطه خوف ونساء وعيال، وآخره مجهول. وقد عبر الامام علي بن الحسين “عليه السلام” عن ذلك… فعن الامام جعفر إبن محمد “عليه السلام” قال لي أبي محمد الباقر “عليه السلام”: سألت أبي علي بن الحسين عليه السلام عن حمل يزيد له فقال: حملني على بعير يظلع (أي جمل يعرج في مشيته) بغير وطاء، ورأس الحسين “عليه السلام” على علم، ونسوتنا خلفي على بغال واكفة، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت عين من أحدنا قرع رأسه بالرمح، حتى إذا دخلنا دمشق، صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا اهل البيت.
والمشهور أن سبايا أهل البيت (ع) قد مروا حين عودتهم من الشام إلى المدينة على كربلاء، حيث نزلوا فيها في العشرين من صفر وشاركوا في زيارة الأربعين، ” وقد وجدوا فيها جابر بن عبد الله الانصاري صاحب رسول الله (ص) الذي كان قد سبقهم إلى كربلاء مع جماعة من بني هاشم، ورجالا من آل رسول لزيارة قبر الحسين (ع)، فاجتمعوا في وقت واحد بالقرب من قبر الحسين (ع) وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، واقاموا في كربلاء ثلاثة أيام ينوحون على الحسين (ع) والمشهور ايضا حسبما صرح كثير من العلماء والمؤرخين أن السبايا والإمام زين العابدين (ع) قد اعادوا معهم إلى كربلاء رأس سيد الشهداء ودفن مع جسده الطاهر بعد أربعين يوما من استشهاده في العشرين من صفر.
مسير المشاية
لمن يرمي ببصره على الأفواج والجحافل الزاحفة نحو كربلاء المقدسة هذه الأيام لزيارة الإمام الحسين، عليه السلام، في أربعينه، يُخيل اليه أن ثمة عفوية وتلقائية مدفوعة بحماس شديد، وحب عميق لصاحب المناسبة، وينتقل سريعا إلى مكان وعالم آخر، اقدام تطأ الارض شوقا للوصول الى تلك البقعة المباركة التي أدهشت العالم، وهنا تتذلل كل الصعاب والمشقات بسبب عظمة الموقف،
وينتفض قلبك من هدوئه ويضج بمشاعر لا يمكن لبعض الكلمات أن تصفها وتترجمها، وتطوف عينك وسط الجموع والمواكب وتسمع هتافات أصحابها “هلا بزوار ابو السجاد”، “هلا بزوار أبو علي”، هلا بزوار الحسين”، وهذه العبارات تزيل تعب المشاية وترفع معنوياتهم وتنسيهم صعوبة المشي على الاقدام لأيام متتالية.
مواكب الخدمة
هو مشهد لا نظير له في العالم اجمع حيث يبذل العراقيون اموالهم وجهودهم لنيل رضا الله عز وجل وتسجيل اسمائهم في قائمة من خدم زوار ابن بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، البذل والعطاء هنا من غير منة من احد بل يقول الخدام انهم هم الممتنون للزوار الذين يبيتون في المساء في مواكبهم ويأكلون من زاد ابا عبدالله الحسين عليه السلام.
وتقدم المضايف خدمات لا تختص بالأغنياء دون الفقراء، كتصليح الأحذية وعجلات العربات للمشاية الصغار بالإضافة إلى خدمات شحن الهواتف النقالة والاتصال المجاني، كما تقدم خدمات التدليك والعلاج الطبيعي وخدمات خياطة وغسيل وكي الملابس. كما ويشارك رجال الحوزات العلمية ورجال الدين في العراق بتقديم خدمة الاستفتاءات الدينية وتصحيح القراءة لسور القرآن الكريم والطريقة الصحيحة للبس الحجاب الإسلامي بل ترى الجميع يشارك حتى بتقديم المناديل للزوار وتطيبهم قائلين «خذ طيب يا زائر»، وتعلو أيضا أصوات المواكب العزائية والرواديد في طريق المشاية.
وتفرد «شاي أبو علي» بنكتهه العراقية حيث يحرص الزوار على الشرب منه، وتتفنن المواكب في تقديمه حيث توضع أكواب الشاي بطريقة معينة بجانب منقلة النار بفحمها الملتهب. وتكثر في طريق المشاية مختلف القدور الكبيرة التي يطبخ فيها الطباخون الطبخات العراقية
المشهورة كالقيمة ورز الفاصوليا وشوربة البطاطس والهريس بالسكر وسندويشات الفلافل والكباب العراقي والشاورما.
فضل الزيارة
ولقد أكد أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين تأكيداً كبيراً على الاهتمام والمواظبة على زيارة سيد الشهداء الإمام الحسين فلا تكاد تخلو مناسبة من المناسبات الدينية إلا ونجد أن من الأعمال المستحبة فيها بل من أفضل أعمالها هي زيارة سيد الشهداء فمثلاً هي من أعمال ليلة القدر والعيدين ويوم عرفة والنصف من شعبان وغيرها من الاعمال … بل إن زيارة الإمام الحسين مطلوبة كل يوم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «مَن خَرَجَ مِن مَنزِلِهِ يُريدُ زِيارَةَ الحُسَينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ (عليه السلام)، إن كانَ ماشِياً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطوَةٍ حَسَنَةً، وحَطَّ بِها عَنهُ سَيِّئَةً، حَتّى إذا صارَ بِالحائِرِ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ المُفلِحينَ»، من هنا ندرك أن عقد النية لزيارة الإمام الحسين فيها من البركة والرحمة الكثير وتعطي الإنسان دروسا في الصبر وتهذيب النفس وتجديد الولاء لهذا النهج المبارك.
الهدف من السير إلى الحسين
وإن ظاهرة الزيارة المليونية في زيارة الأربعين للإمام الحسين (عليه السلام) تعبر عن انتصار القيم والمبادئ والأهداف التي استشهد من أجلها الإمام الحسين في معركة كربلاء، وما هذا الحشد الهائل من البشر الذي نراه ونشاهده في كل عام، ومن مختلف الأديان والمذاهب، والأعراق والجنسيات والقوميات إلا تأكيد على انتصار المظلوم على الظالم، والمقتول على القاتل، والحق على الباطل، فهذه الواقعة الكربلائية السامية أظهرت أن الانتصار الأموي المادي الذي حدث كان مؤقتاً وزائلاً، بينما انتصار القيم والمبادئ مستمر وثابت، وهذا ما أكدته أحداث كربلاء وما حدث بعدها؛ وهذا هو الانتصار الحقيقي.
ويكمن الهدف من المسير إلى الإمام الحسين ع في أنه يجسد الإيمان وتعميق الولاء وإذكاء عنصر المواساة والمحافظة على الهوية الصادقة لمدرسة أهل البيت ع خصوصا وصورة الإسلام الحنيف عموما، كما انه يمثل عرفانا بحق هذا الإمام المظلوم وتأكيدا على حبه والثبات على نهجه والتمسك بأهدافه ومبادئه. كما ان هذه المسيرات تحيي التآلف بين أبناء المجتمع الواحد والإنسجام بينهم وتقوي التماسك وتوحد الكلمة والموقف لأنها تعبئ مشاعرهم وتوحد غايتهم ولهذا تجد أن شعائر عاشوراء تزداد عمقا ورسوخا يوما بعد يوم في نفوس الأجيال، وتفاعلا وامتدادا بين الأمم والشعوب والتي يتجلى الهدف منها في أنها تسعى إلى إستنهاض الشعوب المستضعفة وبث روح الإباء والثبات في نفوسهم ضد الظالمين والمستكبرين.وان هذا المسير هو مسير استنكار وتنديد وإعلان وبيان للعالم أجمع ليعرف ويتعرف على مدى الخسة والدناءة التي جرت على آل رسول الله ع في هذه الفاجعة الاليمة، ولمواجهة المحاولات التي تسعى لطمس شريعة سيد المرسلين وإبادة أهل بيته حين رفعوا شعار :”لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية”، ولكن “يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”، كما انه مسير يجيب فيه الموالون لما دعا إليه أئمة أهل البيت ع في إحياء أمرهم والدعوة إلى ذكرهم، كما روي عن الإمام الصادق ع قوله لفضيل: أحيوا أمرنا يا فضيل، رحم الله من احيا أمرنا.
لذلك أصبحت هذه المسيرات الراجلة في زيارة الأربعين شعارا للموالين لأبي عبد الله الحسين ع وهوية لهم، إضافة إلى أنها تمثل فرصة لهم لإعادة الحسابات والرؤى التي ربما نأت بالإنسان بعيدا عن المنهج الحقيقي للإسلام وأحكامه، وجرفته عن الهدف الواقعي لنهضة الإمام الحسين ع، فعليه ان يراجع نفسه فيها، سائرا إلى الحسين ع وملؤه الإيمان الصادق الحقيقي لا صورة وشكلا، ومخلصا في قصده لا فارغا من المحتوى والمضمون، صلبا متماسكا في إعلان اهدافه وغاياته، كانه حامل السيف على الشيطان وحزبه، متبرئا من يزيد ومعسكره، ومتوجها إلى الله تعالى وحزبه، قاصدا معسكر الإمام الحسين ع وجنده نادما تائبا.
توصيات المرجعية
ومن يطالع توصيات المرجعية الدينية العليا في العراق يلاحظ مدى اهتمام سماحة السيد السيستاني “دام ظله” بالجوانب التربوية والأخلاقية للزيارة المليونية ويعتبرها محطة سنوية لتربية النفس وتهذيبها، كما يركز على روحية العمل والإخلاص فيه إلى الله خلال زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، فقيمة العمل لا تأتي بكثرته ولا مدى اتساعه أو تسليط الأضواء عليه و انما يقترن بنيِّة من يقدم هذا العمل، فمن كان عمله خالصاً إلى الله سيضاعفه على قدر إخلاصه فيه ومن كان عمله للناس فسيكون أجره على الناس ولن يتقبله الله منه.
ودعت المرجعية أيضا إلى تنزيه الشعائر عن الشوائب غير اللائقة وحثت على العفاف والتستر. وقد بينت التوجيهات أننا يمكن أن نكون كمن عاشوا مع الأئمة لأن مواقفهم وأخلاقياتهم محفوظة ونستطيع ان نقتدي بها ونتواصل مع مراقدهم كما نتواصل معهم بشكل مباشر ،ووفق هذه التوجيهات فإن من أولويات الزيارة الاربعينية هو استذكار تضحيات الإمام الحسين (عليه السلام) .
وقد اعتبرت التوجيهات ان المشاركة في هذه الزيارات المليونية سواء بالزيارة او خدمة الزائرين هي محطة في سبيل تربية النفس على تحمل المصاعب وتهذيبها لخدمة الناس كون الخدمة قيمة مهمة في المنظومة الاسلامية. وحثّت على أهمية أن تشيع هذه الروح التعاونية والمُحِبة للآخرين والخادمة لهم طوال العام، ولا تقتصر بأيام الزيارة المحدودة.
وأكدت المرجعية ان على من يخرج من مرقد الامام الحسين عليه السلام بعد أداء مراسيم زيارة الأربعين ويعود الى بيته يجب ان يكون انسانا اخرا يحمل مبادئ الامام الحسين عليه السلام، وان يكون عارفا بحق الامام عليه، ليكون حينئذ قد وفى للامام الحسين عليه السلام واصبح مصداقا حقيقيا للحديث (من زار الحسين عارفا بحقه وجبت له الجنة).
استعدادت العراق
وأعلن العراق إستعداده لإستقبال الزائرين، إذ ان رئيس هيئة اركان الجيش العراقي الفريق عثمان الغانمي أكد على توفير الامن الكامل لمراسم زيارة اربعينية الامام الحسين (سلام الله عليه) المليونية. كما أشار قائد شرطة النجف اللواء علاء غريب الزبيدي إلى الإنتهاء من وضع خطة لحماية كافة المواكب الحسينية والزائرين في جميع انحاء المحافظة جرى تامين ومسح كافة المناطق وتقسيم المحافظة الى قواطع كما تم تخصيص ساحات لوقوف سيارات الزوار.
كما اعلنت العتبة الحسينة اتمام استعداداتها التنظيمية والخدمية والامنية لاستقبال الزائرين خلال زيارة الاربعين، کما افتتحت العتبة العلوية صحن السيدة فاطمة الزهراء وذلك تزامنا مع توافد زائري أمير المؤمنين في ذكرى الأربعينية.
اذا ما زالت كربلاء هذه البقعة الطاهرة تقصد وتؤم، وأصبحت رمزا لساحة العزة والكرامة، هذه الأرض التي ما إن سالت عليها دماء الشهداء الزاكية الطاهرة، حتى أضحت مشعلا ينير دروب الإنسانية جيلا بعد جيل، وكعبة تتوالى عليها قوافل المؤمنين والاحرار، وضريح الحسين ع ما زال شاخصا شامخا، ينهل من خلوده وعظمته الرساليون والأحرار، قيم العدل والإباء،والحرية والمساواة، والكرامة والعزة.
النهایة