شفقنا العراق- من الشخصيات البارزة وجليلة القدر والشأن في الكوفة، عرف في قومه بالوقار والنزاهة والالتزام والشرف، وله منزلته الرفيعة بينهم ذلك هو مسلم بن عوسجة بن ثعلبة الاسدي رضوان الله عليه وهو صحابي جليل , كان ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنه، وممن قام بمكاتبة الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة لمبايعته ومساندته ونصرته.
وهو الذي خاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلا “أنحن نخلي عنك، ولما نعذر الى الله في أداء حقك، اما والله لا أبرح حتى اكسر في صدورهم رمحي واضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى اموت معك).
وكان عند عهده وصدق قوله، وشهدت له شجاعته وتخلدت في ثرى الطف مواقفه وترددت في ذاكرة التأريخ ارجوزته:
إن تسألوا عني فاني ذو لبد* وان بيتي في ذرى بني أسد
فمن بغاني حائد عن الرشد* وكافر بدين جبار صمــد
نظر اليه الحسين عليه السلام وقد سقط بعد ان قاتل باستماتة فمشى اليه مع حبيب بن مظاهر.. كانت فيه بقية من روح وقد اصطبغ وجهه بالدم فضعف صوته، فدنا منه الإمام الحسين (عليه السلام) وقال رحمك الله يا مسلم، ثم تلا قوله تعالى {فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
ثم دنا منه حبيب ابن عمه ورفيقه وهمس في أذنه “عزّ عليّ مصرعُك يا مسلم أبشر
بالجنة” فقال له مسلم بصوت ضعيف “بشرك الله بخير”.
لقد تعاهدا على تحقيق هذه البشرى الا وهي الشهادة في سبيل الله بين يدي سيدهما الحسين (عليه السلام ) ثم قال حبيب: “لو لم اعلم اني في الاثر لاحببت ان توصي اليّ بما اهمك” فقال مسلم “اوصيك بهذا _ واشار الى الحسين _ ان تموت دونه”.
وسرعان ما فاضت روحه الشريفة بين الإمام الحسين ( عليه السلام ) وحبيب بن مظاهر ( رضوان الله عليه ) , فصاحت جارية له نادبة إياه : وامسلماه، يابن عوسجتاه، ياسيداه !!
وصار أعوان عمرو بن الحجاج -وهو من جيش الأعداء- يتنادون : قتلنا مسلم بن عوسجة .
وكان شبث بن ربعي حاضرا، عند تناديهم , فقال لهم : ( ثكلتكم أمهاتكم , أيقتل مثل مسلم وتفرحون ؟ لرب موقف له كريم في المسلمين يوم ( آذربايجان ) وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين ).
سلامٌ يا نهر العزم والإرادة ، أيّ إيمان ذلك الذي يدفعكم لمجابهة وحش الكفر الكاسر المتمثل بيزيد وزبانيته، وأنتم على قِلَّتِكُمْ عازمون على قتله، نعم والله، فما كان لإرادتكم بالأمس أضحى متلألئاً في سماء التاريخ، وما أنتم بلاهثين خلفَ الخلود، إلا أن التأريخ خَجِل أمام مواقفكم، وأرى جبينه يتصبب عرقاً ليملأ فراتاً حال بينكم وبين مائِهِ، فما شُهِد قبلكم ولا بعدكم موقف يضاهي موقفكم، ولا شموخ يواري شموخكم ولا وقفة أسمى من وقفتكم بين يدي الحسين، وأنتم على يقين بأن الموت مدرككم.
أبعث إليكم بتحايا الشباب المرابطين في جبهات القتال والمتجحفلين في المواكب العاشورائية، المتعطرين بعبق مواقفكم السامية، فو الله ما تقاعسوا ولا تخاذلوا وأنتم قدوتهم، وفي قلوبهم الحسين (عليه السلام) وشمٌ، كما كان في قلوبكم، ويجري في عروقهم دمُ حبيب وبرير وعابس .
إليكم أبعث بتحاياهم وهم يزفون بشرى تحرير أرض العراق الشبر تلو الشبر مضحين كما ضحيتم، ناصرين لعقيدتهم، فهذا هو سيل تضحياتكم المار بكل الأزمان والعصور، الجارف لكل شائبة أرادت تدنيس دين نبينا الأكرم محمد(صلى الله عليه واله وسلم)، لقد قال فيكم الحسين عليه السلام ” أما بعد: فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي …” وقلتم فيه “لا طيّب العيش بعدك يا أبا عبد الله الحسين” فلا طيب العيش بعد دمائكم يا أنصار الحسين (عليه السلام)، سطّرتم بجهادكم وشهادتكم العظيمة تاريخ الإسلام العظيم، وتاريخ الأمّة الإسلامية، فهنيئاً لكم يا رجال الظل، الذين بنيتم مجد الأمّة وعظمتها وأعززتم دين الله بدمائكم الطاهرة النقية، لترفعوا راية الحسين عالية خفّاقة، وسلام عليكم وعلى مواليكم وعلى حشد الحسين (عليه السلام) وحشدكم في هذا الزمان.
النهایة