شفقنا العراق-كانت مبررات الثورة على الحكم الأموي متوفرة في عهد معاوية، وقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعرفها، وعبّر عنها في عدة كتب وجهها إلى معاوية جواباً عن كتبه إليه. وحين يتساءل الباحث عن السر في قعود الحسين عليه السلام عن الثورة في عهد معاوية مع وجود أسباب الثورة آنذاك. لماذا لم تدفعه الأسباب إلى الثورة، وانتظر حتى موت معاوية ثم ثار في زمن يزيد. لماذا منعته الأسباب هنا ولم تمنعه في زمن يزيد؟
الذي نراه في الجواب على هذا التساؤل: هو أن قعود الحسين عن الثورة في عهد معاوية. كانت له أسباب شرعية واجتماعية موضوعية لها مساس بالعقيدة الإسلامية، لا يمكن تجاهلها، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: الوضع الاجتماعي: لم يكن الحسين عليه السلام أقل معرفة لواقع مجتمع العراق من أخيه الحسن عليه السلام فهو يعرف هذا المجتمع ومواقفه من أهل البيت، بسبب ذلك أثر أن يعد مجتمع العراق للثورة، بدل أن يحمله على القيام بها زمن معاوية. “جاءه رجل من أهل الكوفة في زمن أخيه الحسن عليه السلام اسمه علي بن محمد بن بشير الهمداني ” موفدا من جماعة أهل الكوفة يمثل شريحة الثوار الناقمين على الحكم الأموي. كان الرجل متوجها للإمام الحسن عليه السلام ثم جاء الحسين عليه السلام فقال له بعد كلام طويل: صدق أبو محمد، فليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام الإنسان حياً”. يعني معاوية. معنى الحلس “الملازم للمكان” فلان لازم بيته ولم يغادره خوفا على قضية مهمة، والملازمة مقرونة بالخوف تسمى حلس. يقابلها كلمة الترك والابتعاد، فوصية الحسين عليه السلام تعني “أن يكون كل فرد منكم متهيئا على استعداد وحاضرا للثورة بدون تأخير حين دعوتي”. وهذا يبين إن إعداد الثورة قبل موت يزيد.
ظل هذا رأيه بعد وفاة الإمام الحسن السلام حين كتب إليه أهل العراق أن يجيبهم إلى الثورة على معاوية، فكتب إليهم: “أما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده، وأما أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فألصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حياً”. ما السر في ذلك؟
الموقف من الحسين عليه السلام تجاه معاوية كان رأيه ألا يثور في عهده فيأمر أصحابه بأن يخلدوا إلى السكون والهدوء، ويبتعدوا عن الشبهات. هذا يوحي لنا بأن هناك حركة منظمة كانت تعمل ضد الحكم الأموي ذلك الحين من قبل الشعب عامة لان الأمويين يعطون المبررات لمن يعاديهم بسبب أخطاءهم الفاحشة وكفرهم وتجاوزهم على الأحكام الشرعية. لذلك جاء هذا الرجل محمد بن علي بن بشير الهمداني للإمام الحسن ثم الحسين عليه السلام.
هؤلاء المخلصون الذين ضن بهم الحسن عليه السلام عن القتل فصالح معاوية، هذه أول ثمرات سياسة الإمام الحسن ظهرت ليستثمرها الحسين عليه السلام مهمتهم كانت بعث روح الثورة في النفوس عن طريق الإعلام وإظهار المظالم زمن معاوية، انتظاراً لليوم الموعود وحركة الحسين.
هذا جانب اجتماعي ونفسي تعيشه الأمة بسبب موقف الإمام الحسن عليه السلام واستثمره الحسين عليه السلام.
ثانياً: شخصية معاوية: تخطيط الثورة زمانا ومكانا مهم جدا، لأنه لو ثار الحسين عليه السلام في عهد معاوية لما استطاع أن يعطي ثورته هذه الاستمرارية الذي خلدها في ضمائر الناس وعقولهم، نجاح الثورة وسر بقائها عبر القرون الطويلة بما فيها من الفداء والبطولة والعطاء.
سر ذلك يكمن في شخصية معاوية، وأسلوبه الخاص في معالجة الأمور. لان معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة التي يتيح فيها للحسين عليه السلام أن يقوم بثورة مدوية، مؤكد انه يتحايل عليه فيقف أمام الناس ويقول إن الله يقول: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} فيصدقه المغفلون وأصحاب المصالح الدنيوية.
كما رفع عمر بن العاص المصاحف من قبل وتبعه الناس في صفين، رغم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين” ولكنهم صدقوا عمر بن العاص لصالح معوية بن أبي سفيان.
إذن ثورته لو قام بها في عهد معاوية ستفشل على الصعيد السياسي والاجتماعي حين ينظر إليها المجتمع من الزاوية التي سيسلط معاوية عليها الأضواء نقض الحسين العهد عليه السلام فيظهرها للرأي العام كأنها تمرد لا يسنده القران ومخالف للشرع. هذا لا يغيب عن الحسين عليه السلام، ويعرف جيدا إن موقفه سيكون مشوها أمام أغلبية الناس.
لتوضيح الفكرة بشكل أوسع: دليل على ذلك، في حجة الوداع نزل جبرائيل عليه السلام بأية الولاية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} رفع بضع علي عليه السلام وقال: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”.
اسالكم هل تحققت نتائج الغديرية في جميع الصحابة؟ أم اغلبهم سمعها ولم يكترث لها، وآخرون وقفوا ضدها؟
القران بين إن الناس ليسوا سواء في الأمور العقائدية، لهم مصالحهم أكثر من عقيدتهم {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}. يقول الحسكاني عن الصادق عليه السلام إن النعمان بن الحرث الفهري، وفي رواية النضر بن الحرث، جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: أمرتنا أن نصلي ونصوم ونحج ونزكي ونجاهد، فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت علينا هذا الغلام، فقلت من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال: والذي لا الاه إلا هو انه من الله، فرفض أن يتقبل ذلك من الله ولى وهو يقول: {اللهم إن كان هذا هو الحق منك فأمطر علينا حجارةً من السماء} كلمة كبيرة وتحدي لله وللرسول وهو صحابي يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولعل هذا هو ما يفسر جواب الحسين عليه السلام لسليمان بن صرد الخزاعي حين فاوضه في الثورة على معاوية، فقال له الحسين عليه السلام: “ليكن لكل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حياً، فإنها بيعة كنت والله لها كارهاً، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ثالثاً: العهد والميثاق: كل من قرأ عن الحسين عليه السلام يرى إن العهد الذي كُتب بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، كان سببا في تأخير الثورة، رغم إن تأخيرها كلفه دماءً وأرواحً، ثم لماذا التزم به الحسنان عليه السلام ولم يلتزم به معاوية، وحقق بذلك انتصارات سياسية على الأرض، خرقه بحضور الإمامين عليهما السلام في الكوفة، وحقق حلم بني سفيان في الوصول للحكم وهنا الفرق يتمسك الهاشميون بالعهد ولم يتمسك به الأمويون؟
الجواب على ذلك…هذه النقطة كتب عنها بتوسع الكاتب الكبير “عباس محمود العقاد”، حين استعرض نفسية البيتين العلوي الهاشمي والأموي والمرواني، لان العهد والميثاق صفة أخلاقية وشرعية قبل أن تكون سياسية ومسالة التمسك بالنصوص الشرعية تحتاج أخلاق بالأساس، وبعيدا عن مناقشة الظروف السياسية بين البيتين يجب أن نعرف أخلاق الطرفين فيتحقق بذلك معرفة السبب! هناك وصايا في القران الكريم يعتبرها المشرع الإسلامي أساس العقيدة التعاملية أي “الاجتماعية” مثل حرمة الزنا وجعل قبالها الزواج الشرعي، وقتل النفس المحترمة إلا بالحق، وقبالها القصاص، والوفاء بالكيل والميزان عند البيع، لأنه الحق حتى تنتظم العلاقة التعاملية بين الناس، وحفظ وصيانة العهد وشدد على العهد فقال تعالى: إن العهد كان مسؤولا… السبب في التشدد لان كل التعاملات والعلاقات وخطوط النظام الاجتماعي والاقتصادي ينتظم بالعهد.. ولو انهارت الثقة بين الناس فسينهار النظام الاجتماعي وتحل الفوضى، وحين تحل الفوضى يتراجع الدين بين الناس ويضعف تماما، لان العهد كلمة شرف تبين حقيقة معادن الرجال، وهو نوع من أنواع علو الهمة أو خستها.
العهد يتفرع إلى قسمين، الأول: الوفاء بما تعاهد الإنسان مع غيره بصورة كاملة وصادقة وهذا يرتب حقوقا بذمته. والقسم الثاني: هي حقوق الآخرين التي تعلقت بالذمة من جراء معاملة العهد. وهذه يؤديها صاحب الأخلاق الحميدة التي تزرع ثقة الناس فيه فيميلون إلى التعامل معه بثقة عالية، الله يمدح أحد أنبيائه بتلك الصفة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بصدق الحديث، ووفاء العهد، وحفظ الأمانة فأنها وصية الأنبياء.
يقول الشاعر إذا قلت في شيء نعم فأتمه… فان نعم دين على الحر واجب، والا فقل لا واسترح وأرح بها، لكيلا يقول الناس إنك كاذب.
الشيخ عبد الحافظ البغدادي
———————–
المقالات المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————