خاص شفقنا-يُنقَل عن المرشد الأعلى أنّ السيّد خاتمي (بعد انتخابه رئيساً للجمهوريّة) في العام 98 استعرض معه مجموعة من القضايا منها إصراره على فكرة التزام المرشد بالعمل في إطار الدستور، وقد أيّد المرشد فكرته قائلاً: “كلامٌ جميلٌ، ولكن اعلم أنّك ستكون أكثر رئيس جمهوريّة طلباً مني لاستخدام صلاحياتي خارج إطار الدستور”.
وبالفعل، فيما بعد لجأ خاتمي للمرشد مراراً وتكراراً كي يطلب منه استخدام سلطته استثنائيّاً لحلّ بعض المسائل، وكان ردّ المرشد أن يرفع طلباته إليه بصورة مكتوبة.
تشبه الدورة الثانية لرئاسة حسن روحاني، الدورة الأولى لرئاسة السيّد خاتمي في كثيرٍ من النواحي. إلا أنّ ما يميّز روحاني 2017 عن خاتمي 1998 تمتّعه بمزايا جدّيّة ستؤثّر، خلال أربع السنوات القادمة، على وتيرة التطوّرات ومداها.
تعبّر القصّة التي ذكرتها في البداية عن نوعٍ من الجهل كان يكتنف خاتمي في مقاربة طبيعة السلطة وهيكليّتها في الجمهوريّة الإسلاميّة في العام 98؛ وهو أمرٌ متوقّع صدوره آنذاك من رجلٍ كان أمضى خمس سنواتٍ بعيداً عن عالم السياسة والحكم منذ استقالته من وزارة الإرشاد، مفضّلاً تخصيص جلّ وقته للدراسات النظريّة.
أمّا روحاني فيقف في الموقع المقابل تماماً؛ فهو شخص حنّكته تجربة السلطة لحوالَي أربعة عقود، فعرف دهاليزها وخطوطها الحمراء التي تمنعه من التسرّع لاتّخاذ مواقف غير ناضجة كالتصريح بعدم قبول المرشد إلا في إطار الدستور، ولا سيّما أنّه لم تُتَح له فرصة الاحتكاك بالشؤون الداخليّة والخارجيّة إلا في عهد آية الله خامنئي قائداً للثورة، ما منحه زخماً من التجربة الغنيّة جعلت منه أكثر درايةً بالطرق الأكثر نجاعةً لتحقيق أهدافه بالمقارنة مع خاتمي 98.
في هذا السياق، من المفيد نقل “الفلاش العابر” التالي كموقف ذي مغزى يقرّب المقصود: أثناء آخر خطبة جمعة ألقاها الشيخ هاشمي رفسنجاني في العام 2009 (وكانت الأخيرة له)، لمّا ارتفعت أصوات المصلّين بشعارات حادّة تمسّ خطوط النظام الحمراء، دعاهم الشيخ للهدوء، قائلاً: لو سمحتم… أنا أعبّر أفضل منكم.
طبعاً، لم يكن أحدٌ ليُجاري الشيخ خبرةً وحنكةً في اتّخاذ السبيل الأمثل لو تبنّى منهج النقد وسلك طريق الإصلاح. واليوم يحظى روحاني بما يشبه ذلك الموقع.
لقد أثارت مواقف روحاني خلال حملته الانتخابيّة استغراب وذهول الكثيرين، الذين تأكّد لديهم بعد فوزه في الانتخابات أنّ دعايته الانتخابيّة لم تكن مجرّد تكتيك لجلب الأصوات فحسب؛ إذ يكفي الرجوع إلى تصريحاته خلال الأيّام الأخيرة حول وثيقة اليونسكو التعليميّة 2030 (والتي تهدف إلى ضمان توفير فرص تعليم متساوية للجميع على الصعد العالميّة والإقليميّة والوطنيّة، وقد ثار حولها الكثير من الجدل بين مسؤولي النظام)…
ختاماً، أشير إلى ثلاثة عوامل حاسمة في تطوّرات أربع السنوات القادمة:
أولاً. المحافظون
أنعشت ذاكرتَنا السياسيّة ممارساتُ المحافظين، خلال حملاتهم الانتخابيّة للتنافس على رئاسة الجمهوريّة 2017، لنستعيد ذكريات نشاطاتهم في العام 1997 التي كانت موجّهة لصالح المرشّح ناطق نوري (ضدّ محمّد خاتمي الذي فاز في حينها). أتمنّى عليهم من كلّ قلبي ألا يتعاملوا مع حكومة روحاني الثانية كما فعلوا مع إدارة خاتمي الأولى.
يذكر الراحل آية الله “مهدوي كني” في مذكّراته أّنهم (المحافظين) توجّهوا في أعقاب (صدور نتائج) انتخابات 1997 للقاء المرشد، عارضين عليه موقفهم كما يلي: إنّنا أمام ثلاثة خيارات، إمّا إعلان الرفض الرسميّ لنتائج الانتخابات ورأي الشعب، أو الكفّ عن معارضة خاتمي والإقرار بخطئنا تجاهَه “علماً أنّنا كنا نجزم بخطأ الشعب في خياره”. أمّا الخيار الثالث، فيتمثّل في التعامل مع خاتمي مع البقاء في حالة تأهّب واستعداد لصون النظام والمحافظة عليه، و”الردّ مباشرةً عند الإحساس بتعرّضه لأيّ خطر وتهديد”… أرجو أن يكون المحافظون هذه الأيام قد تحرّروا من تلك العقليّة ونمط التفكير.
ثانياً. الإصلاحيّون
ما يميّز الإصلاحيّين عن المحافظين أنّهم أحسنوا تعلّم الدروس من مرحلة التشدّد الذي تبنّوه نهجاً لهم يوماً ما، ليكتشفوا لاحقاً أنّ القرارات التي اتّخذت في ضوئها، من إطلاق اعتصامات وتقديم استقالات في نهاية الدورة السادسة لمجلس الشورى الإسلاميّ (البرلمان)، لم تكن في الحقيقة سوى نوعٍ من الانتحار السياسيّ. ناهيك عن النزق الذي طبع سلوكهم آنذاك في التعامل مع الغير، ولا سيّما عبر شنّ الحملات الشعواء على هاشمي رفسنجاني، ولم يدركوا حجم الكارثة التي تسبّبوا بها إلا عند ذهاب الانتخابات الرئاسيّة 2005 للدور الثاني وانحصار التنافس بين هاشمي رفسنجاني وأحمدي نجاد، عندها ثاب الإصلاحيّون إلى رشدهم وراجعوا حساباتهم متسائلين بذهول: ألم يكن من الأفضل تجنّب الشطَطَ في استهداف رفسنجاني؟
كان عليهم، كما عبّر محمّد قوجاني، أن يسابقوا الزمن ليمحوا من أذهان الناس آثار ثماني سنوات من التشهير بحقّ هاشمي خلال مدّة أقصاها أسبوع، فوقع فأس الهزيمة على رأس الجناح الإصلاحيّ (وعانوا من آثارها كثيراً)…
ثالثاً. الشعب
وهو العامل الأكثر تأثيراً؛ إذ صار الشعب يدير وسائل تواصل إعلاميّة سبق بها الإعلام الوطنيّ بأشواط كثيرة، في تجلٍّ لأهمّ سرٍّ كشفه روحاني خلال الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، ألا وهو قوّة الشعب. وهو السرّ الذي كان هاشمي رفسنجاني، من قبل، قد أدرك حجم طاقتها الهائلة في العقد الأخير من حياته، حين أشار إليها في آخر رسالة وجّهها لمناسبة عيد النيروز وحلول رأس السنة الإيرانية الجديدة وأطلق عبارته التاريخيّة: “لولا الدعم الشعبيّ، لكانت شريحة رجال الدين هشيماً تذروه الرياح وعاجزة حتى عن الحفاظ على نفسها”.
سبق لهاشمي استيعاب هذه الحقيقة الكامنة مع انتصار الثورة الإسلاميّة، إلا أنّ مقتضيات السياسة ولوازم السلطة فرضت وقائعها عليه لتبعده نسبيّاً عن الاهتمام بتلك الطاقة الكامنة، حتى أعاد وصل ما انقطع بها إبّان أيام التهميش الذي تعرّض له…
في المقابل، حالف الحظّ حسن روحاني بإحاطته بمثل ذلك السرّ وهو في ذروة قوّته.
تشكّل القوّة الجماهيريّة أكثر العوامل حسماً في مسار تطوّرات السنوات الآتية، وإنّ استثمار الجهات أو الاتّجاهات السياسيّة لتلك الطاقة الكامنة رهنٌ بمدى قدرة كلٍّ منها على التقرّب من الشعب؛ الذي لو آمنت كافّة القوى السياسيّة بقوّته لتقدّمت البلاد بصورةٍ متوازنةٍ، ولما وقعنا أسرى الدوران في حلقة التشدّد المفرغة.
جعفر شير علي نيا (محلّل وكاتب صحفيّ إيراني)