خاص شفقنا-من الصعب جدا التعرف على الاسباب الحقيقية التي ساهمت في دفع الاوضاع الامنية والاقتصادية في تركيا للانحدار الى هذا المستوى الخطير، ما لم نضع شخصية الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، في مقدمة هذه الاسباب، لما تحمله من صفات التعالي والعناد والتفرد والاستبداد، ساهمت في تفريخ باقي الاسباب الاخرى التي رسمت صورة المشهد التركي باكمله.
حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان رسم صورة جميلة لتركيا لدى الراي العام العالمي وخاصة الاسلامي، بعد ان سجل ارقاما لافتة في النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي الاجتماعي، الى جانب علاقات دولية متزنة مع كافة دول العالم لاسيما دول الجوار، الا ان هذه الصورة تهشمت بعد ان هيمن اردوغان على قرار الحزب، واختصر الحزب في شخصه، وتنكر للقيادة الجماعية، واقصى رفاق دربه القدماء، فاستبد برايه فوقع في اخطاء قاتلة، واوقع معه تركيا والمنطقة برمتها.
تدخل اردوغان وبشكل مباشر في الحرب التي فرضها على الشعب السوري بذريعة دعم “الثورة”، عبر ارسال مئات الالاف من التكفيريين والارهابيين القادمين من اكثر من 80 بلدا في العالم الى الداخل السوري، وارتد بعضهم الى الداخل التركي فيما بعد، وكاد ان يورط تركيا في حرب لاتبقي ولاتذر مع روسيا عندما اسقط طائرة السوخوي الروسية، واساء لعلاقات تركيا التاريخية مع مصر، عندما تدخل في الشان المصري، وحاول تكرار السيناريو السوري في العراق، ووتر علاقات تركيا باوروبا وامريكا، عبر استغلال ماسآة اللاجئين، والعمل على تحقيق اهداف داخل سوريا تتعارض تكتيكيا مع الاستراتيجية الامريكية في هذا البلد.
البعض يعتقد ان الانقلاب الذي كاد ان يطيح باردوغان، ومحاولات الكرد السوريين في بسط سيطرتهم على الشمال السوري، كانا سببين في تغيير سياسة اردوغان ازاء سوريا والمنطقة برمتها، وهو ما فسر الاعتذار اردوغان لبوتين عن اسقاط السوخوي، وتطبيع علاقاته مع موسكو، ومن قبل مع “اسرائيل”، وكذلك الخطاب المعتدل والهادىء والمساوم لاردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدريم، حول استئناف سياسة “الإكثار من الأصدقاء وتقليل الأعداء” والعمل على تطبيع العلاقات مع سوريا ومصر.
اغلب الظن ان مثل هذا الاعتقاد لا ينبع من فهم دقيق لشخصية اردوغان المعقدة ، فقد اثبت اردوغان وفي اكثر من مرة، انه لن يتنازل عن افكاره بسهولة، فهو يرى في هذه الافكار، بانها جزء من شخصيته وذاته، فقد دافع عن افكاره ومواقفه في العديد من القضايا، مثل قضية اللاجئين وقضية اصراره على اقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، الى الحد الذي اضر بعلاقات تركيا التاريخية مع امريكا والغرب، ومنع شركائه في الناتو من استخدام قاعدة انجرليك التركية، وهدد في اتخاذ مواقف اكثر تشددا في حال لم ترضخ امريكا والناتو لمطالبه.
يمكن فهم شخصية اردوغان من اصراره على الظهور بمظهر سلطان عثماني، يتعامل مع البلدان العربية كولايات تابعة للباب العالي، وكذلك من بناء “القصر الابيض” الباذخ الترف، المؤلف من اكثر من 1000غرفة، وكذلك من خطابه الاستعلائي مع الحكومتين العراقية والسورية، فهو يخاطب الاقلية التركمانية في العراق وسوريا على انهم اتباع لتركيا وليسوا مواطنين عراقيين وسوريين، وكذلك من اهتمامه غير المالوف بقبر جد العثمانيين في شمال سوريا الذي يعتبره البعض “مسمار اردوغان” في سوريا، وكذلك من ردة فعله المتطرفة ازاء الانقلاب الفاشل، حيث كانت بمثابة الانقلاب الحقيقي، بعد زجه بعشرات الالاف من الضباط والقضاة والمحامين والاعلاميين والصحفيين والفنانيين والرياضيين والاطباء والمهندسين ونشطاء حقوق الانسان في السجون، وما زال يطالب امريكا بتسليمه المعارض فتح الله كولن المقيم في امريكا.
اليوم هناك من يتحدث عن تراجع اردوغان عن سياسته ازاء سوريا، بل ان البعض يتحدث عن وجود تنسيق بين اردوغان والحكومة السورية، حول عملية “درع الفرات” التي ينفذها الجيش التركي في شمال سوريا، وهو حديث تكذبه الوقائع على الارض، قبل ان تكذبه شخصية اردوغان، ففي الوقت تبذل جميع دول العالم ما بوسعها من اجل محاربة “داعش”، باعتبارها الخطر الاول الذي يهدد العالم باسره، وتمكن التحالف الدولي ان يلحق اولى الهزائم بـ”داعش” في سوريا، بفضل تحالفه مع المقاتلين الكرد السوريين، نرى اردوغان الوحيد في هذا العالم ما زال يصر على وضع “داعش” والكرد في خانة واحدة.
العالم كله رأى كيف تمكن المقاتلون الكرد الى جانب العرب في قوات سوريا الديمقراطية من طرد “داعش” من مدينة منبج الاستراتيجية بعد قتال دام نحو ثلاثة اشهر سقط فيه المئات من القتلى في صفوف مقاتلي سوريا الديمقراطية، فيما اليوم تقوم الطائرات والمدفعية التركية في اطال عملية “درع الفرات” بقصف هؤلاء المقاتلين بهدف طردهم من منبج واحتلالها!
في الوقت الذي كان وما زال البعض يتصور ان حلم اردوغان في اقامة منطقة امنة في شمال سوريا قد انتهى، بسبب التطورات الدراماتيكية التي شهدتها تركيا والحرب السورية، الا ان اردوغان خرج على العالم يوم السبت 3 ايلول/سبتمبر ليعلن للعالم وبصريح العبارة في مؤتمر صحفي، ان الهدف من عملية “درع الفرات” هو إقامة منطقة امنة في شمال سوريا، واضاف: “ليس لأحد أن يتوقع منا أن نسمح بممر للإرهابيين على حدودنا الجنوبية”، وكل العارفين بشخصية اردوغان، يفهمون من كلامه انه يقصد الكرد وليس “داعش”!
علاقة اردوغان بـ”داعش” تعود الى فترة محاصره “الدواعش” لكوباني من جهاتها الغربية والجنوبية والشرقية، بينما حاصرت القوات التركية كوباني من الشمال، ليكتمل الحصار على الكرد على مدى سبعة اشهر من القتال الدامي، وانكشفت هذه العلاقة اكثر عندما دخل الجيش التركي مدينة جرابلس دون ان تطلق “داعش” رصاصة واحدة على الجيش التركي، حيث انسحب “الدواعش” وبشكل منظم الى مدين الباب جنوب جرابلس، وقبل هذا وذاك كان موقف “الدواعش” “انسانيا” جدا مع عشرات الاتراك العاملين في القنصلية التركية في الموصل، فلم تتعرض لهم بسوء واطلقت سراحهم فيما سبت وقتلت وذبحت الاخرين.
موقف الحكومة السورية وبيان وزارة الخارجية السورية من عملية “درع الفرات” اكدا على عدم وجود اي تنسيق بين حكومتي البلدين في هذا الشان ، فليس من مصلحة سوريا الابقاء على قوة “داعش” كما هي مثلما يفعل الجيش التركي الان، عندما يدفع بـ”الدواعش” الى الجنوب من المنطقة التي يحتلها في شمال سوريا، ليكونوا حاجزا يفصل بين المنطقة الامنة وبين الجيش السوري.
كل الذرائع التي تطرحها تركيا لتبرير غزوها لسوريا وفي مقدمتها وقف تقدم المقاتلين الكرد، لا يمكن ان تتستر على الهدف الحقيقي من وراء هذا الغزو وهو احتلال منطقة واسعة من شمال حلب لاقامة منطقة امنة وهو سيناريو تنفذه تركيا في شمال الموصل ايضا، ولكن بهدوء.
النهاية