خاص شفقنا-يقول اهل السياسية ان النظام الديمقرطي ليس بالنظام المثالي الذي يمكن يحقق في ظله الانسان كل امانية وتطلعاته في حياة كريمة، الا انه في الوقت نفسه افضل نظام توصل اليه الانسان، لانه يضع قيودا على التحرك الفردي في الحكم، والذي كان وما زال السبب الابرز للكوارث التي تعاني منها الشعوب، ويوزع بالمقابل مسؤولية الحكم على عدد كبير من الاشخاص للتقليل من احتمالات الخطأ قدر الامكان.
هذه القاعدة الديمقراطية في تداول السلطة هي التي اوصلت الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية الى سدة الحكم في تركيا في الانتخابات التي جرت في عام 2003، الا انه وبعد تجربة ناجحة في الحكم استمرت حتى عام 2011 ، انقلب اردوغان على الديمقراطية التركية، وبدا في توجيه دفة السياسة التركية نحو موانىء الحكم الفردي، عبر تغيير النظام البرلماني الى رئاسي، وتوسيع دائرة صلاحيات رئيس الجمهورية، والتصدي لحرية التعبير ووضع خطوط حمراء عديدة امام الصحافة والاعلام بشكل عام، وتدخل بشكل واضح في شؤون القضاء، وابعد العديد من القضاة الذين يشك في ولائهم له، ودس في القضاء الموالين له، وجسد نزعته “السطانية” عمليا ببناء قصر فخم يتالف من اكثر من 1000 غرفة، استخدم فيه كميات كبيرة من الذهب كلف الميزانية العامة للدولة التركية نحو 700 مليون دولار امريكي.
النزعة نحو الاستفراد بالقرار في تركيا لدى اردوغان كلف هذا البلد اثمانا باهظة من امنه واستقراره ورخائه بل حتى وجوده، بعد ان فرض رؤيته حول الازمة السورية على الجميع، وكان يتعامل مع سوريا كولاية تابعة للباب العالي العثماني، واخذ يتدخل في الازمة السورية وكأنه وصي على سوريا، وفتح ابواب تركيا على مصرعيها امام مئات الالاف من التكفيريين وشذاذ الافاق وارسلهم الى سوريا بعد تدريبهم وتسليحهم، وأمر الجيش التركي بالتدخل وبشكل مباشر في الحرب على السورية الى جانب الجماعات التكفيرية، واستخدم اللاجئين السوريين كورقة ضغط ضد اوروبا وامريكا من اجل الموافقة على اجندته الخاصة بسوريا، الامر الذي ادى الى استمرار الازمة السورية كل هذه الفترة.
النزعة السلطانية لدى اردوغان دفعته حتى الى الصدام مع روسيا، حيث تجرأ على اسقاط طائرة سوخوي روسية وهي فوق الاجواء السورية، وهو الحادث الذي ساهمت تداعياته في اعادة بعض الوعي الى اردوغان واخراجه من دائرة احلام اليقظة، الا ان الصفعة التي اعادة اليه جانب كبير من الوعي كان الانقلاب الفاشل الى جانب بسط الاكراد السوريين سيطرتهم على الشمال السوري، لاسيما بعد عبورهم الى الضفة الغربية من نهر الفرات وتحريرهم مدينة منبج من “داعش” ومطاردته حتى بلدة الباب.
ارتدادات نزعة اردوغان السلطانية على صعيد الاقليم، جاءت سريعة وعنيفة ايضا على صعيد الداخل التركي، فقد تمردت جماعات من التكفيريين على السيد التركي وشهدت العديد من المدن التركية والمنتجعات السياحية تفجيرات ارهابية ذهب ضحيتها الالاف، واخرها التفجيرات التي استهدفت مطار اتاتورك الدولي في اسطنبول الدولي، وهي القشة التي قصمت ظهر الامن التركي، حيث خسرت تركيا جراء هذه التفجيرات مليارات الدولارات التي كان قطاع السياحه يدرها عليها، بالاضافة الى الحرب التي اعلنها اردوغان على الاكراد والتي ارتدت على الداخل التركي بشكل اعنف واقسى من ارتدادات تمرد “داعش” والتكفيريين على سلطات المخابرات التركية، فقد اشتعلت مناطق جنوب وجنوب شرق تركيا مرة اخرى وانتقلت شرارة هذه النيران الى داخل تركيا، وتمثلت بسلسلة التفجيرات والاغتيالات التي استهدفت الجيش والشرطة وقوات الامن.
استفراد اردغان بالقرار التركي وقلبه للديمقراطية التركية ظهر المجن، وعلاقاته الوثيقة بالتكفيريين والارهابيين في سوريا والعراق، اثارة حتى حفيظة حلفائه بالغرب، فهذه المانيا التي كانت الحليف الاوثق لتركيا على مدى عقود، نشرت قبل ايام تقريرا سريا على القناة الأولى في التلفزيون الألماني “ARD” كشفت فيه أن الحكومة التركية تحولت منذ عام 2011 (بداية الحرب المفروضة على سوريا) الى “منصة العمل المركزية” لمنظمات إرهابية في الشرق الأوسط، وهو ما اثار ردود فعل قوية لدى حكومة اردوغان.
يبدو ان الرئيس التركي اردوغان، وبعد الفوضى العارمة التي شهدتها سوريا خلال الاعوام الخمسة الماضية، والانتكاسات التي واجهتها تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي، يحاول جاهدا لاعادة الزمن الى ما قبل عام 2011، قبل ان تورطه في سوريا وتوريط بلاده في حرب عبثية ضد جار مسلم مسالم، لم تعد الا بالخراب والدمار والفوضى للمنطقة برمتها، فقد بدا بتطبيع علاقاته مع روسيا، والاقتراب اكثر من الموقف الايراني ازاء ازمات المنطقة وخاصة الازمة السورية، والابتعاد شيئا فشيئا عن المحور الامريكي، الذي ورطه في هذه الحرب والمتهم الاول في الانقلاب الفاشل الذي كان يهدف للاطاحة باردوغان وحكومة العدالة والتنمية في تركيا، وهي محاولة في غاية الصعوبة، بعد كل تلك الارواح التي ازهقت، والناس التي شردت، والديار التي خربت، والفرص التي اهدرت، والنفوس التي تكدرت، وكان يكفي ان يحترم اردوغان مبادىء الديمقراطية التركية ويصغي لصوت الاغلبية والعقلاء في تركيا ، لتجنيب المنطقة كل هذا الدمار، بسبب لحظة نزق وطيش.
النهایة