الجمعة, مارس 29, 2024

آخر الأخبار

المرأة العراقية وسوق العمل.. صعوبات وتحديات وعقبات قانونية

شفقنا العراق ــ تواجه المرأة العراقية الراغبة بالدخول إلى...

الهيئة العليا للتراث تناقش دور المخطوطات في تدوين التراجم وتوثيقها

شفقنا العراق ــ فيما ناقشت دور الوثائق والمخطوطات في...

الكمارك تبدأ العمل بنظام الاسيكودا

شفقنا العراق- من مركز كمرك ساحة الترحيب الكبرى في...

الموارد: اعتماد الأقمار الصناعية لدراسة التوقعات الجوية المؤثرة على دجلة والفرات

شفقنا العراق- تعمل وزارة الموارد المائية على اعتماد الأقمار...

قصف إسرائيلي يستهدف ريف دمشق ويتسبب بإصابة مدنيين اثنين

شفقنا العراق ـ استهدف قصف إسرائيلي مساء اليوم الخميس...

في ذكرى تأسيس منظمة بدر.. تأكيد عراقي على دور التضحيات في إسقاط نظام الاستبداد

شفقنا العراق ــ بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس منظمة...

زراعة ديالى تقدم سماد “الكومبوس” بسعر مدعوم

شفقنا العراق- تعمل مديرية زراعة ديالى على إنتاج كميات...

المالية النيابية: موازنة 2024 ستركز على القطاعات الخدمية

شفقنا العراق - أكدت اللجنة المالية النيابية أن موازنة...

النزاهة تضبط متهمين بالرشوة تسببوا بهدر نحو ربع مليار دينار

شفقنا العراق- تمكنت هيئة النزاهة الاتحاديَّة، اليوم الخميس، من...

السوداني يدعو الحكومات المحلية إلى العمل بروح الفريق الواحد وكسب ثقة المواطنين

شفقنا العراق- فيما دعا إلى العمل بروح الفريق الواحد،...

التجارة:استئناف العمل بمشروع البطاقة التموينية الإلكترونية قريبًا

شفقنا العراق ـ فيما حدد موعد استئناف العمل بمشروع...

السوداني يترأس الجلسة الثانية للهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات

شفقنا العراق ـ ترأس رئيس الوزراء محمد شياع السوداني،...

مبدأ القيادة في فكر الإمام علي؛ بقلم د. نجم عبدالله الموسوي

شفقنا العراق- مبدأ القيادة في فكر الإمام علي (عليه...

الحرب على غزة.. استمرار القصف والضحايا أكثر من 107 آلاف بين شيهد وجريح

شفقنا العراق ــ تتواصل الحرب على قطاع غزة في...

معالم الصيام وأهدافه ما بين الإسلام والأمم الغابرة

شفقنا العراق- سنحاول أن نرصد بعض معالم الصيام وشرائطه...

لجرد أضرار المحاصيل جراء الأمطار الأخيرة .. الزراعة تشكل غرفة عمليات

شفقنا العراق ـ بعد تأثر بعض المحاصيل الزراعية وتضررها...

الإسراء والمعراج.. معجزة كبرى خالدة وتجسيد لعظمة الله تعالى

شفقنا العراق ــ من أبرز أهداف الإسراء والمعراج، إعداد...

التعداد السكاني.. أساس مرتقب للتحول الرقمي المستقبلي في العراق

شفقنا العراق ــ مع الإعلان عن تنفيذه إلكترونيًا لأول...

العثور على قطع أثرية في بابل

شفقنا العراق ــ أعلنت وزارة الداخلية اليوم الخميس (28...

مباحثات عراقية باكستانية لتعزيز التعاون في المجالين الأمني والاقتصادي

شفقنا العراق ــ بحث مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي،...

رشيد يدعو إلى الإسراع بصرف رواتب موظفي ومتقاعدي الإقليم

شفقنا العراق ــ فيما أكد على أهمية رفع مستوى...

لإجراء الأبحاث الطبية.. جامعة الزهراء تفتتح مختبرًا تخصصيًا للتقطيع النسيجي

شفقنا العراق ــ بتوجيه من ممثل المرجعية الدينية العليا،...

العتبة الحسينية تكشف عن الخدمات المقدمة ضمن مبادرة “عطاء المجتبى” الطبية

شفقنا العراق ــ فيما أحصت خدماتها المقدمة ضمن مبادرة...

ضمن البرنامج الرمضاني.. العتبة العلوية تقيم مأدبتي إفطار جماعيتين

شفقنا العراق ــ من ضمن البرنامج الرمضاني لرعاية مختلف...

فارس حرّام لشفقنا: الدرس الديني في النجف هو المغذي الرئيس لتكونها الأدبي الخلاق

خاص شفقنا-يَبقى القلَم صَديقاً عَزيزاً للسيف، إذا ما كانَ السيف مَعَ الحَق، لكنهُ يَنقلَب في لَحظةٍ مِن الزَمن إلى يَراعٍ موجِع، يَصد السيف بنَصلهِ الخَشبي ذي التأريخ الطويل، فهنا خُلقت الكِتابة، ومِن هُنا تَعلم العالم التدوين، وكأننا في لحظةٍ عراقيةٍ دائمة التوهّج مِنَ الإبداع، عِندما نَتذكر سومرية وطن معَ قامة نَجفية كبيرة، أتسمت بالوضوح الصارم، والوطنية الصادقة، لتؤسس إلى مُستقبل أدبي شبيه بذاكَ التأريخ السرمدي، الذي بَقينا نحتفي بِه “بنسيانه“!

إننا بإختصار في رحاب الأدب والإدباء، نُحاور فارس حرّام الاسم الذي سَبقَ كلّ عنوان، لِنقف سوياً على أبرز محطات الأدب العراقي، نُقلِب التأريخ، نَغوصُ في الحاضِر، ونستقرئ المُستقبل..

وقد أبتدأ السيد فارس حرّام الحوار بوصفٍ موجز عن واقع الأديب في المجتمع العراقي الذي بقيَّ رهين العسكرة والتجييش قائلاً: علّمنا التاريخ أن الآداب والفنون لا تجد مكانها الحقيقيّ والطبيعيّ وسط فترات القتال والتناحر، نعم، يمكن أن تظهر قصيدة هنا أو عمل فني هناك، لكنّ الحركة الطبيعية للآداب والفنون تجد نفسها وتزدهر في زمن السلم، بل إنّ أعمق نتاجات الأدباء والفنانين ضدّ الحروب نجدها في أيام السلم. لننظر مثلاً إلى نتاج الأدب العالمي بعد الحرب العالمية الثانية كيف أظهر موقفاً إنسانياً عظيماً ضدّ العنف، وكيف أبرز الجروح العميقة التي تخلفها الحروب في المجتمعات وفي النفوس، وأثّر في قناعات مجتمعات ما بعد الحرب. في حين لم يكن متاحاً أمامه القيام بهذا الدور الحيويّ في أيام الحرب نفسها. وحتى لو ظهر نتاج أدبي عظيم في أيامها، فلن يحظى بفرصة انتشاره الحقيقية بين الناس، لأن الناس في أيام الحروب ينشغلون بالوسائل التي يحمون فيها أنفسهم وأُسَرَهم وكيف يتجنبون أن يصبحوا ضحايا، وان يديروا حياتهم الاقتصادية.

في عراق ما بعد ٢٠٠٣ نجد الوضع نفسه تقريباً، فنحن نعيش حالة حرب ضدّ الإرهاب وضدّ قيم العنف والكراهية وإقصاء الآخر، حتى غدا الناس منشغلين للأسف بالكيفية التي يحمون فيها هوياتهم الفرعية (الدين، الطائفة، القومية، العشيرة، المعتقد الفكري) في حين تراجع الشعور بالهوية الكبرى الجامعة لهذه الهويات أعني بها: الوطن. وفي ظل وضعٍ عاصفٍ كهذا، فإن من الصعوبة أن يجد الأدب مكانه الحقيقيّ، وأكرر: نعم، قد نجد عملاً أدبياً مهماً هنا أو هناك، أو عملاً ينال شهرة جماهيرية هنا أو هناك، إلا أننا لن نجد “حركة أدبية” بالمعنى الطبيعي المؤثّر الذي نجدها فيه في المجتمعات المستقرة.

وعن دور الأدباء في نهضة الدول وتقدمها لا سيما مثل ما حصل في دول أوربا بعدَ الحرب العالمية الطاحنة وضحَّ السيد فارس حرّام: أنت تكلمت عن الحرب العالمية الثانية وكانَ عمرُها ستَّ سنوات فقط، في حين مرّ على العراق منذ التغيير في العام ٢٠٠٣ ثلاثة عشر عاماً وهو على هذه الحال، ويرى كثير من العراقيين أن بوادر التغيير فيه لا تبدو واضحة في أفق السنوات القليلة القادمة.. إذن هل سيبقى صوت الأدباء خافتاً طوال هذا المدى الطويل من الزمن؟ ألا تستدعي الفترة الطويلة للعنف قيام حركة أدبية ناضجة ومؤثرة في المجتمع بدلاً من عدم قيامها؟

نعم يا عزيزي، لكنّ الحربَ العالميّة الثانيةَ عندما بدأت وعندما انتهت لم تكن المجتمعات الأوربية تمرّ بفترة انهيار في أنظمة التربية والتعليم، ولم تكن في حالة انهيار في العلاقة بين الفرد والكتاب، كان الناس يقرأون ويتابعون قبل الحرب، فعندما انتهت واستقرت الأوضاع عادوا إلى عادتهم اليومية إلى الآن. في حين إن العراق يعيش حالة انهيار في التربية والتعليم منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وهذا سبب جوهري وحيوي لانحسار القراءة في مجتمعاتنا، إضافة إلى ان التحكم الدكتاتوري في التعبير في أيام نظام صدام كان له دور مؤثر في توجيه الناس إلى نمط ثقافي وفكري معيّن لا نزال حتى الآن نعاني من آثاره، وأبرز سمات هذا النمط أنه ذو بعد واحد: يرى فيه الفرد أن الأدب والفن يجب أن يكونا “جماهيريين” حتى لو على حساب القيم الفنية للعمل الأدبي والفني. إن ظاهرة التمجيد الإعلامي للأدب الهابط الضعيف سادت منذ أيام صدام، حين سخّر مقدرات المؤسسات الإعلامية للترويج للأدب الذي يمدح النظام ويوطد أركانه، بغض النظر عن قيمة هذا الأدب، وكان النظام يقوم بهذا العمل طوال أكثر من ثلاثين عاماً: يقرّب الأدباء السطحيين والضعفاء في الغالب، ويُبعد الحقيقيين منهم حين لا يجد منهم دعماً له. أنا أسوق لك هذه الملاحظات على عجالة لكي نفرّق بين وضع المجتمعات الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية ومجتمعنا العراقيّ بعد التغيير العام ٢٠٠٣ وهو حتى الآن تحت وطأة الإرهاب اليوميّ. نعم، يستطيع البلد أن ينهض نهضة شاملة بعد الفترة الطويلة للعنف، وأن تكون من نتائج هذه االنهضة ظهور حركة أدبية حقيقية يعيش أدباؤها الاستقرار والتراكم الإبداعي لكن من يقوم بهذه النهضة الشاملة في البلد؟ حتى الآن لا تظهر أي بوادر واقعية ملموسة لانطلاق هذه النهضة.

وبالإنتقال إلى جزء مهم وحيوي من الحركة الأدبية في العراق، ونقصد هنا محافظة النجف ودور البيئة الدينية في الحركة الأدبية، أكدَّ السيد فارس حرّام عمق الشراكة قائلاً: الأدب في النجف صنوٌّ للعلوم الفقهية ومباحث أصول الفقه ومنجزات أساتذة الحوزة الدينية. سأعطيك هنا بعض الأرقام الموثقة: ففي “الموسوعة الشعريّة” ذات النسخة المتجددة سنوياً، الصادرة عن المجمع الثقافيّ في “أبو ظبي” بدولة الإمارات العربية المتحدّة.. ظهر أنّ شعراء النجف الأشرف، ما بين عام 1800 وعام 1950 كانوا يفوقون بالعدد شعراء بلديْ مصر وسوريا مجتمعيْن.. هذا والنجف آنذاك مدينة عتيقة تتألف من شارعين رئيسيْن مُتْربَيْن، وبضعةِ أزّقةٍ ضيّقة. السؤال كيف تسنى للنجف أن تغدوَ بهذا الإعجاز إن لم تكن فيها مدارس دينية؟ الدرس الديني في النجف هو المغذي الرئيس لتكوّنها الأدبي الخلاق، مع وجود مغذٍّ تاريخي آخر هو الطبيعة الحضاريّة لهذه المدينة، بموقعها المعروف ضمن الأضلاع الثلاثة للمثلث الحضاري (الحيرة ، الكوفة، النجف). ولا بدّ أن لا ننسى مكانة الكوفة الثقافيّة تاريخياً وتأثيرها على خلق بيئة شعور عام بالإرث العظيم. لقد أسهمت مدارس النجف الدينية في الحفاظ على هويتنا الثقافية المتمثلة باللغة العربية، حين حفظتها في زمن أعتى موجات التتريك في العهد العثماني، وقتها كانت حتى لافتات الشوارع في بغداد مكتوبة باللغة العثمانية. كما إن مدارس النجف جعلت اللغة الفصحى جهاز تخاطب يوميّ في دروسها في أيام الجهل والفاقة المطبقَيْن في العراق وانتشار اللغة العامية المخلوطةِ بها لغاتٌ أخرى، وكانت حلقات التفسير القرآني ودروس نهج البلاغة لا تنفصل جوهرياً عن النقد الأدبي والنظر اللغويّ العميق للنصوص، فبهذا الأفق من التشارك الوجودي اليوميّ يتلاقى كلّ من النتاج الأدبي والنتاج العلميّ الديني في النجف الأشرف ليصنعا ظاهرة فريدة من نوعها عربياً. لهذا كلّه: أنا لا أعتقد أبداً أن شراكةً كهذه يمكن أن تتوقف يوماً هنا. ولي في ذلك تجربة مباشرة مع الوسط النجفيّ منذ أكثر من ربع قرن، فإلى الآن نجد أدباء مرموقين من داخل الوسط الدينيّ. النجف ولّادة وستبقى ولّادة.

وتطرق السيد فارس حرّام إلى الأمية الثقافية التي يعانيها المجتمع وخاصةً فيما يتعلق بهجر القراءة: مشكلة انحسار القراءة ليست خاصة بالمجتمع العراقي وحده، إنها هي مشكلة عالمية، لكنّها تلبس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لبوساً خاصاً، فهي ليست أزمة ناتجة عن التقدم التقني الهائل والتواتر السريع في نبض الحياة اليومية كما نجد ذلك في المجتمعات الصناعية المتقدمة، وإنما هي عندنا (أي في مجتمعاننا العربية والإسلامية عموماً) نتيجة سوء إدارة الدولة. فالتحكم الدكتاتوري بالتعبير ظل ملازماً للغالبية الساحقة من الأنظمة السياسية العربية طوال قرن كامل تقريباً، وهذا التحكم يقوم بدوره على قاعدة واسعة من عمليات التجهيل المنظمة للمجتمع، والاعتماد على أنظمة تربية وتعليم مبنية أساساً على ترويج فكر السلطة وإبقائها في الحكم لا على تنشئة مجتمع متنوّر يحترم هويته وتراثه احترام الواعي لهما ويقبل الاختلاف في الرأي ويحب المعرفة والعلم ويستمتع بالآداب والفنون. وبناءً على هذا كلّه نشأت مجتمعاتنا العربية وهي لا تعرف علاقة متميزة مع الكتاب والمعرفة، فإذا قرأت قرات بخشية من الآخر المختلف، وبتخدنق فكري وعقائدي مميت. وثق أيها الأخ العزيز إن مشكلات الإرهاب التي تنتشر في عالمنا العربي هي نتيجة طبيعية لعمليات تجهيل المجتمع التي قامت بها الأنظمة المستبدة لكي تبقى في الحكم، والعراق ليس بعيداً عن هذا الواقع المرير، بل هو أكثر البلدان تضرراً من تعاقب سلطات الاستبداد فيه. وللآن للأسف الشديد لم نجد تفكيراً حقيقياً في هذه المشكلة داخل نظام الدولة في عراق ما بعد ٢٠٠٣، لا في حكوماته المتعاقبة منذ ذلك الحين، ولا في تشريعات برلماناته ولا حتى في تفكير أحزابه التي تمسك السلطة. وكأن الامر لا يتعدّى الاستفادة من “إرث” نظام صدّام في التجهيل والعيش على جهل المجتمع لهويته الثقافية ولتراثه العظيم ولمتطلبات التواجد في هذا العصر ثقافياً وحضارياً، لغرض واحد لا تخطئه العين: البقاء في السلطة.

وعن الإهمال الذي يعانيه المثقف العراقي شخَّصَ السيد فارس حرّام الأسباب قائلاً: برأيي إن السببَ الأساسي في إهمال المثقف العراقيّ هو المثقف العراقيّ نفسه. نعم، توجد أسباب أخرى تتعلق بالحالة الأمية العامة التي يعيشها الشعب، سواءً أكانت الأمية الألفبائية (من لا يقرأون ولا يكتبون) أو الأمية الثقافية، وكذلك توجد أسباب أخرى تتعلق بطريقة تفكير المتحكمين بالدولة (الحكومة والبرلمان مثلاً) تجاه المثقف وأهميته الحيوية في بناء المجتمع والدولة. لكنني أقول بعد هذا كلّه أن السبب الأساسي هو المثقف العراقيّ نفسه، بسبب الصفة النفسية العامة للمثقفين العراقيين للأسف الشديد، فبغض النظر عن المستوى الإبداعي الذي نجده عند كثيرين يصل إلى العالمية، إلا اننا نجد في المقابل سلبية وضعفاً في النشاط الذي يخاطب الجمهور العام، وطبعا أنا لا أقصد أن يكتب الشاعر قصيدة جماهيرية تدغدع مشاعر الناس لكي يكون له هذا النوع من النشاط، وإنما أنا أقصد انخراطه في النقاش العلني للشؤون العامة وإسهامه في صناعة رأي عام جديد يغير نوعية التفكير السائدة في المجتمع، اتحدث هنا عن ظهور إعلامي ونشاط اجتماعي عام ينتظر المثقف العراقيّ لكي يكون قريباً من الناس ويسهم في صناعة آرائهم نحو مجتمع آمن مسالم يحترم العلوم والآداب والمعارف ويعتز بها. فما دام المجتمع أمياً في الغالب من الناحية الثقافية، لا يجيد التمييز بين الإبداع والتقليد في الشعر، فليس شرطاً أن يلحّ المثقف على أن يعلمه هذه المهارة، وإنما عليه أن ينزل عميقاً إلى الأسباب التي لا تنتشر بموجبها مهارة التفريق بين الإبداع الأدبي والتقليد الفجّ عند الناس، وأعني بالنزول عميقاً بلوغ الأسباب الجوهرية لظاهرة الأمية الثقافية، والإسهام جدياً في وضع حلول لها، أو في الأقل توجيه الرأي العام لوضع حلّ جذري لها، فضلاً عن القيام بدور ريادي لنشر القيم الإيجابية التي تواجه قيم الإرهاب والعنف والإقصاء والجهل. وبالطبع أنا أتحدث في هذا كلّه عن المثقفين الحقيقيين، ذوي الهموم الثقافيّة الجادة، أما أشباه المثقفين وملمعي أحذية السلطة (بأنواعها) فهم خارج إطار حديثنا أساساً.

وأكدَ السيد فارس حرّام على الدور المهم للأديب العراقي في مواجهة الطائفية والإرهاب وما يشابهها من حالات دخيلة على الوطن: الإجابة على هذا السؤال متضمنة في إجابتي عن السؤال السابق، أقصد إسهام المثقف العراقي والمؤسسات الثقافية في صناعة رأي عام وبيئة ثقافية مناسبة لتقبل النشاط الأدبي والتفاعل معه ومتابعته. فعنما يهتم المثقف العراقي عبر نشاطه الإعلامي والاجتماعي والثقافي اليوميّ بصورة مباشرة وملحّة بهموم المواطن العاديّ فإنه سيضمن مكانته المؤثرة عنده، التي تسبق مكانته كمبدع وتعطيه مكانته كإنسان متعلم ومتنوّر يضيء الطريق أينما حلّ. وفي هذا الصدد أستطيع الإشارة إلى مبادرتين مهمتين قام بهما اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف في السنوات الأخيرة، ففي أواخر العام ٢٠١٢، وعلى هامش مؤتمر “المثقف العراقيّ والمصالحة” الذي أقامته الحكومة العراقية في بغداد، عرض وفد اتحاد النجف مقترحاً على وفد اتحاد أدباء الأنبار مفاده إصدار وثيقة رأي للوفدين حول السبل الكفيلة بنشر السلم الأهلي وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، الوثيقة سميت آنذاك بـ“إعلان النجف – الأنبار لنشر السلم الأهلي في العراق“، وقد حظي هذا الإعلان بصدى إعلامي جيد جداً، وأقيمت حوله حلقات تلفزيونية وإذاعية في أكثر من وسيلة إعلامية، ونشر نص الإعلان في أكثر من جريدة عراقية. إلا أن مستشارية المصالحة الوطنية التي تم تسليم الإعلان لها يديوياً أهملت الإعلان للأسف، وكانت فيه نقاط واقعية وخطوات عملية ابتعدت عن الكلام العمومي والتعابير الجاهزة.

المبادرة الأخرى كانت بعد احتلال داعش أراضي واسعة من العراق، إذ أصدر الاتحاد في تموز من العام ٢٠١٤ “مبادرة “أدباء ونخب نجفية للسلم الأهلي في العراق“، وقد وقع عليها حوالي مئتي شخصية نجفية مرموقة، فيهم رجال دين بارزون وأدباء كبار وفنانون وأكاديميون وإعلاميون وناشطون مدنيّون. قالت المبادرة جوهرياً إن داعش لا تمثل سنة العراق، قالت ذلمك والدموع لم تكن قد جفت بعد بسبب مجزرة سبايكر الأليمة، والنجف حين قالت ذلك عبر جهد اتحاد أدبائها فإنما أردت السير على نهج رمزها الأكبر الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي لم يكن في حكمه العادل يأخذ الكلّ بجريرة الجزء. وكانت لهذه المبادرة طبعاً أصداؤها الواسعة وأسهمت رأيي بنقل صورة حقيقية للطريقة المسالمة والحضارية والمتنورة التي يفكر بها أبناء النجف مهما كثرت حول فكر النجف وعلمها السكاكين والشائعات المغرضة، هي أولاً وأخيراً طريقة الفكر المتسامح المحبّ للإنسان ضدّ الفكر المتطرّف الدموي.

وأنتقدَ السيد فارس حرّام الفجوة الحاصلة بينَ المثقف والشارع العراقي قائلاً: لطالما تحدثت أنا شخصياً في أكثر من مناسبة عما أسميه “الحل الثقافيّ لما يحدث في العراق“. فلقد جرّبت الحكومات المتعاقبة الحلول الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية ولم يتم القضاء جذرياً على ظاهرة الإرهاب، في ظل ابتعاد غريب عن القيام بتطبيق “الحل الثقافي“. ومن الضروري أن أشير إلى انني أقصد هنا التعريف الانثروبولوجي للثقافة القائل بأنها أسلوب الحياة التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من أعراف وتقاليد وعادات وتاريخ وقيم وعقائد واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية وتعاطف أو تنافر ومواقف من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل، فهي بهذا المعنى تعني باختصار عقل المجتمع ووجدانه ونفسيته، وهي لا تأتي طبعاً بصورة قصدية من خارج وإنما يتم اغتذاؤها عند الإنسان منذ ولادته، يغتذيها من محيطه.

السؤال هنا أليس للإرهاب بيئة “ثقافية” يعتاش عليها؟ الجواب: نعم، إذن لماذا لا نتوجه إلى هذه البيئة الثقافية بحلول “ثقافية“. لقد ارتكبت حكومات ما بعد ٢٠٠٣ خطأً فادحاً في مجال مكافحة الإرهاب حين أهملت الحلول الثقافيّة العميقة لبيئة الإرهاب واتجهت إلى حلول سطحية مضحكة مثل “حفلات” المصالحة ومؤتمرات النخب المتحكمة بالسلطة والكلمات المعسولة عن الوحدة الوطنية والنسيج الوطني.

ولهذا كلّه فإننا نرى أن لا يمكن القضاء جذرياً على مشكلة الإرهاب ما لم تعتمد الحكومة برامج ستراتيجية بعيدة المدى لتغيير الثقافة السائدة في المجتمع العراقي وهذه البرامج من هذا النوع هي برامج ثقافية، فهي “حل ثقافي” بالدرجة الأولى، يعتمد على تغيير المواقف النمطية السلبية المسبقة من فئة بشرية أو مجموعة في إقليم جغرافي أو ثقافي محدد ضد طرف آخر، سواءً على الخلفيات الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو القومية أو المذهبية أو غيرها. السؤال: هل قدّمت حوكمات ما يعد ٢٠٠٣ هذا الحل؟ نحن في اتحاد الأدباء والكثير من المؤسسات الثقافة ندعم هذا النوع من الحلول لمرحلة ما بعد داعش، ونرى أن الاهتمام بها يجب ان يكون بمستوى الاهتمام بالحلول الأخرى إن لم يكن متقدماً عليها في بعض الأحيان.

ووضح السيد فارس حرّام موقف الأدباء النجفيين وإتحاد الإدباء من الإصلاحات الحكومية التي طالبت بها المرجعية الدينية:

الجواب على هذا السؤال أشطره إلى نقطتين: الأولى أننا عندما انخرطنا في تظاهرات العراق منذ آب من العام الماضي ٢٠١٥.. لم ننخرط بوصفنا ممثلين لمؤسسة الاتحاد وإنما أبقينا الاتحاد بعيداً عن ساحة التظاهرات منذ ذلك الحين إلى اليوم، والسبب في ذلك يعود إلى رؤيتنا القائلة بإبعاد الاتحاد عن ممارسة أي دور سياسي، وتظاهراتنا التي تمتد منذ نحو عام تقريباً هي سياسية في جوهرها، تطالب بالاصلاح في العراق بصورة جذرية (أي صلاح الدولة برمتها) وتخاطب السياسيين بأقذع العبارات وأشدها قسوة. لهذا السبب ترون وجودي شخصياً ووجود أعضاء الاتحاد في الساحة بوصفنا فرادى لا بوصفنا ممثلين لهذه المؤسسة العريقة. إننا في الحقيقة لم نشأ إقحام الاتحاد في خضمّ معترك سياسي ملتهب وصراع قذر قد يتيح للمتصيدين ان ينالوا من هذه المؤسسة الريادية. كما أن إبقاء الاتحاد بعيداً عن التجاذبات السياسية نهج نريد للإدارات القادمة تبنيه وجعله أمانة في العنق. وبالطبع، وقبل كلّ شيء وبعده، إن هذا لا يعني إن الاتحاد لا يريد تقديم الدعم لمطالب الشعب في الإصلاح وإنما هو يقدم هذا الدعم بطريقته المؤسسية الثقافية، عبر إقامة الندوات والمؤتمرات والجلسات الأدبية التي تصبّ كلّها في تغذية ثقافة حرية الرأي التي تقوم عليها جوهرياً ثقافة المطالبة بالحقوق.

النقطة الثانية نقول فيها إن الاتحاد لا يستطيع أن يتحرك لوحده في الساحة بسبب نوعية الحرب الإعلامية القذرة التي تتعرض لها التظاهرات من جهات تعتاش على الفساد والإرهاب ولا تريد الإصلاح لهذا البلد. فلكي يتحرك اتحاد الأدباء والكتاب في الاحتجاجات الحالية فإن ذلك ينبغي أن يكون منوطاً بحركة احتجاجية نقابية على مستوى النجف الأشرف أو العراق، وهي حركة خجولة حتى الآن بل دون مستوى الطموح بدرجات كثيرة للأسف، يكفيها خجلاً ورداءةً أن من بين الكم الكبير للنقابات والاتحادات يقف عدد محدود جداً قد لا يتعدّى نقابتين أو ثلاثاً في مقدمة النقابات المهتمة بالشؤون العامة وبإصلاح البلاد. توجد نقابات لديها آلاف المنتسبين القادرين على ملء الشوارع صوتاً مدوياً للإصلاح، ومع هذا لا تحرّك ساكناً، فكيف باتحاد الأدباء في النجف الذي لم يصل عدد أعضائه بعد إلى المائة عضو؟

وأخيراً؛ شكرَ موقع شفقنا العربي السيد فارس حرّام على إتاحتهِ الفرصة لهذا الحوار القيِّم، وبدوره تقدمَ رئيس إتحاد الإدباء والكتّاب في النجف السيد فارس حّرام بشكره لموقع شفقنا العربي على تواصلهِ الدائم معَ الأدباء والمثقفين.

شفقنا العربي

مقالات ذات صلة